وما قرأت عملاً من أعمال توفيق إلا كان هذا (التصميم الهندسي) واضحاً فيه كل الوضوح
ولعل أوضح ما يوضح ذلك هو (زهرة العمر). فهذا كتاب مكون من مجموعة رسائل إلى صديقه أندريه؛ وليس مطلوباً في (رسائل) متفرقة أن تؤلف موضوعاً متناسقاً. فإذا هي كانت كذلك، كان هذا دليلاً على أصالة ملكة (التنسيق الفني)، وظهورها حيث لا يرتقب منها الظهور
وتقرأ هذه الرسائل في تتابع فتلحظ عملية التنسيق الداخلي، وتحس شيئاً فشيئاً أنك أمام قصة: قصة مخلوق حقيقي أو روائي، يسير في الحياة وكأن يداً خفية تسوقه إلى مصير مرسوم، وكلما أراد لنفسه أو أراد له أهله أو أرادت له ظروفه أن يحيد عن هذا المصير ردته هذه اليد الخفية إلى طريقه المرسوم!
شاب يريد له أهله الوظيفة بعد الليسانس فلا يوفقون، ويبعثون به إلى أوربا للحصول على الدكتوراه، فيجاهد في سبيلها بما يستطيع - بعد أن يغرق في الدراسات الفنية إلى أذنيه -
ولكن تخونه ذاكرته في الامتحان، وتقيض له الحياة متع المرأة الحية جميعاً - مع ساشا الجميلة وسواها - فيمل هذا المتاع ويتعلق بالمرأة الأخرى التي طردته من جنتها بعد أسبوعين وتتركه يتعذب ويتلظى (لأن تعلقه بها جزء في الطريق المرسوم طريق الفن الملعون) ويعود فيوظف وينجح في وظيفته ويأخذ أهله أو يأخذ المجتمع في تكبيله بقيد النجاح العملي ثم بقيد الزواج. . . وهنا يستجمع المؤلف كل قوته الروائية في المشهد الأخير وهو يستعد للوثبة النهائية وللخلاص من جميع القيود؛ فيجمع هذه القيود في مشهد واحد في الرسالة الأخيرة، قيد الوظيفة على أتمه، وقيد الزوجية في إبانه، وقيد المجتمع في احتقار الفنون؛ وفي اللحظة نفسها يبدو كأنه نضج للفن واهتدى إلى سره وأمسك بالأسلوب الذي طال بحثه عنه. . . ثم يسدل الستار بين الهتاف والتصفيق! وبطل القصة أشبه بأبطال الروايات، بل هو أشبه ما يكون (ببجماليون)!
هذا تنسيق يدل على أصالة في فن التنسيق، وهو ظاهره ملحوظة في (زهرة العمر) كل الظهور، وهي كذلك ملحوظة في (يوميات نائب في الأرياف) بمثل هذا الوضوح. وقد اخترت هذين العملين لأنهما ليسا قصة وليسا تمثيلية. فإذا توافر لهما هذا التناسق الكامل، فما أولى القصص والتمثيليات بأن يتوافر لها من أيسر سبيل. وفي (زهرة العمر) رسائل