وليكفني الله شره! فقلت له: وماذا أخشى منه؟ إن لأراك تفرق أشد الفرق! فقال: أخشى منه تحذلقه وتشبثه السخيف بالعربية الصحيحة الفصحى؟ فقلت: أتعد التشبث بصحة اللغة وفصاحتها سخفاً؟! والله لنشر كنه في هذا الأمر إذن! يا زهير. . . يا زهير. . . يا زهير بن نمير. . . ولم أزل أهتف به حتى شغلته عن الخيام ويمم نحونا. ولم يحيي ولم يبني، بل عبس عبوسة مظلمة قاتمة ثم قال: ويحك أيها اللبناني! أتدع أستاذك وابن جلدتك وفخر بلادك. . . درة المعرة أبا العلاء العظيم، بباب هذه الجنة، فلا تدعوه ولا تكلمه، وتترك تلميذه هذا الخراساني، ينفتل إليها ويعيث فيها، ويبحث أول ما يبحث عن أم عنب فينبطح في ظلها؟ من علمكم غرس الفراديس والتقلب في أفياء الجنان غير أي العلاء؟ وأنت مع ذاك تقول لصاحبك إنك تخشاني وتفرق من محاسبتي لتشبثي الذي تنعته بالسخف، بالعربية الصحيحة الفصحى؟ ولكن، لا والله. . . فلن يكون قاضيك إلا ذاك الذي تركته عند باب جنتك دون أن تدعوه إليها. . . فعد أدراجك إليه ثم كفر له عن ذنبك، ويشرفني أن أكون في إثرك مشاركاً في الدعوة عسى أن يغفر لك الشيخ!
ورأيت جبين صاحبي يقطب تقطيباً شديداً؛ وما كاد يخطو خطوة إلى وراء حتى انطوت أرض الفردوس تحت قدميه، وتحت قدمي، فكنا عند الباب من قدمنا، وإذا سيدنا أبو العلاء ينظر إلينا بكلتا عينيه الغائرتين، وقد رد إليهما الله القدير نورهما ثم يبتسم. . . وكنت أسبق إليه من صاحبي بالتحية التي حيانا بأحسن منها. وإذا كان أمر زهير بن نمير عجيباً، حين عرف ما تحدث به صاحبي ولم يكن معنا ولا قريباً منا. . . فقد كان أمر أبي العلاء العظيم أعجب. . . لقد هون على الشاعر اللبناني المبدع ما قال زهير، وما عنف عليه به، ثم أخذ يعاتبه هذا العتب الظريف اللطيف الحلو، دون أن يدخل الجنة:
ماذا يا حفيد الأحفاد، وسليل العرب النجب الأمجاد! فيم ضربك في بيداء الشك وأنت أكبر آية على الحق الذي تبكى من أجله دون أن تهتدي إليه؟ لماذا تعيش كما عشت من قبلك موزعاً بين الفلسفات والوساوس، مقسماً بين الظلام والنور، قلقاً بين الرجاء واليأس، مضطرباً بين الضلال والإيمان؟ لشد ما رثيت لك حينما انتهى إليَّ قولك:
فإذا ما راح فكري عبثاً ... في صحاري الشك يستجلي البقاء
مر منهوكاً بقلبي فجثا ... تائباً يمتص من قلبي الرجاء