واجتمع من العامة خلق كثير لا يحصى عددهم، ثم ضربه الجلاد ألف سوط فلم يتأوه، بل قال للشرطي لما بلغ ستمائة: أدع بي إليك، فإن لك عندي نصيحة تعدل فتح القسطنطينية. فقال له: قد قيل لي عنك أنك تقول هذا وأكثر منه، وليس إلى أن أرفع الضرب عنك سبيل
فلما فرغ من ضربه قطع أطرافه الأربعة، ثم حز رأسه وأحرق جثته، ولما صارت رماداً ألقاها في دجلة، ونصب الرأس ببغداد على الجسر، وانتهت بذلك مأساة هذه القضية
وقد اختلف العلماء في هذا الحكم اختلافا كبيراً، ففريق يرى أنه حكم صحيح، لأن الحلاج قد ارتد عن الإسلام بدعوى الألوهية، وهذا رأي باطل، لأن الحلاج قد تبرأ من اعتقاد بعض أتباعه فيه أنه إله، ولا يصح أن يؤخذ شخص باعتقاد فاسد يراه فيه غيره
وفريق على رأسه الإمام الغزالي يبالغ في تعظيم الحلاج، ويعتذر عن الألفاظ التي تفوه بها مثل قوله: أنا الحق، فحملها في كتابه مشكاة الأنوار على محامل حسنة، وذكر أن هذا من فرط المحبة وشدة الوجد. وقد تفوه كثير من الصوفية بأمثال هذه الأقوال، فقبلها منهم أهل عصرهم، ولم يحكموا بكفرهم كما حكم أولئك القوم بكفر الحلاج، وهذا مثل قول بعضهم:
أنا من أهوى ومن أهوى أنا ... نحن رُوحان حللنا بَدَنا
فإذا أبصرتني أبصرتَهُ ... وإذا أبصرتًهُ أْبصَرْتَنا
وهذا اعتذار غير مقبول، لأن أولئك المتصوفة يذهبون في تلك الأقوال مذاهب معروفة قال بها بعض الفلاسفة قبل الإسلام وبعده، وليسوا أول من قالها حتى تؤول ذلك التأويل لهم؛ على أن الحلاج قد تبرأ من تلك الأقوال، فلا معنى لذلك الاعتذار عنه
وفريق يرى أن الحلاج قد تفوه بتلك الألفاظ كالفريق الثاني، ولكنه يرى أنه لا يعذر فيها كما يعذر غيره من المتصوفة أنه قالها في حال صحوه، ولم يقلها في حال غيبوبته مثلهم، وبهذا استحق حكم القتل الذي حكم عليه به
وكل هذا كما ترى بعيد عما يرويه التاريخ في تحقيق تلك القضية، فهو لم يحكم عليه فيها بتلك الألفاظ التي تبرأ منها، وإنما حكم عليه بما جاء في بعض كتبه عمن أراد الحج ولم يمكنه. وإني أرى أن هذا الحكم باطل شكلاً وموضوعاً، فأما بطلانه شكلاً فلأن القاضي أبا عمر حصل منه أثناء التحقيق ما كان يجب أن يرد به عن الحكم، وهو قوله للحلاج - كذبت يا حلال الدم - وكان ذلك فلتة لسانية لم يدركها إلا بعد وقوعها. فلما قال له الوزير