للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

مفلولاً، وضجروا بمن حولهم وضاقوا بالدنيا ذرعاً، لما في قلوبهم من أثرة مكينة رانت عليها، فأفسدت هناءتها وطوحت بطمأنينتها وجعلها لا ترى العالم إلا ظلاماً دامساً

ألا يحمد هؤلاء الله على أنهم لم يخلقوا حجارة على قارعة الطريق تحطم وتقذف وتداس، أو حيواناً أعجم يتألم ولا يستطيع الشكوى، كل أمله في الحياة أن ينال ما يشبع بطنه، محروماً نعمة التفكير. إننا نبصر ونسمع، ونجرى ونتكلم، ونفكر ونضحك، ونمثل دورنا في مأساة العالم التاريخية، وهذه نعمة خليقة بالشكران إلى الله واهب النعم، ولكن صدق الله حيث يقول: (وقليل من عبادي الشكور)، ورحم الله المتنبي حيث قال في ساعة رضاه:

ولذيذ الحياة أنفس في النف ... س وأشهى من أن يمل وأحل

وإذا الشيخ قال أفّ فما مَلًّ (م) ... حياة إنما الضعف ملاَّ

ألا يعلم هؤلاء أن الحياة يجب أن تلبس على علاتها، وأنها كفاح وجهاد، وصراع وجلاد، يفوز فيها من قويت منته وعظمت عدته، ومن لا تطير نفسه شعاعاً ساعة الإخفاق، بل يجمع الهمة، ويشحذ العزيمة ليعاود الكرة، حتى تسير الدنيا إلى غايتها، فتعمر وتؤتى أكلها، وتسير حثيثاً في سبيل الكمال

دون الحلاوة في الزمان مرارة ... لا تحتظى إلا على أهواله

وأولى بهم أن يقولوا مع الأخطل:

وكان قوى الهموم إذا اعترتني ... زَمَاعاً لا أريد به بدالا

إن المتفائل هو الذي يبسم للحياة في سخطها ورضاها، وهو الذي يرى في الظلمة المطبقة عليه شعاعاً من الأمل ينير جنبات فؤاده، ويغمره بالثقة والإيمان. وليس من التفاؤل ادعاء أن كل شيء يسير على خير ما نرجوه بينما المصائب متحفزة أو غاشية، فتلك بلاهة لا تفاؤل، ومثل من يفعل ذلك مثل النعامة تخفى رأسها حتى لا ترى الخطر المحدق بها، ولكن المتفائل حين يرى الكارثة مقبلة يقدرها كالمتشائم تماماً ويحذرها حذره، بيد أنه يختلف عنه بشجاعته، وابتسامته، وتفكيره السريع المنتظم لتفاديها أو التغلب عليها، أما المتشائم فيجزع من هولها، وينكص على عقبيه فراراً منها وهيهات

يقول روبرت بروننج

(إن المتفائل من لا يولى ظهره للحياة بل يسير في شرعتها قدما

<<  <  ج:
ص:  >  >>