يتطلبون أسرار كماله كما يتطلب علماء الفطرة أسرارها، أن فنهم لم يكن بالفن ونقدهم لم يكن بالنقد، لأن كلا منهم كان يظهر عبقريته في إظهار ما خفي من أسرار ذلك الكتاب المجيد؟
أظن النص الذي قدمته من صدر أول فصل في النثر الفني كافياً في إثبات دعواي على صاحب النثر الفني أنه يدعو إلى نقد القرآن. وليس هو بالنص الواحد الذي في الكتاب في هذا الباب؛ فهناك في الجزء الثاني في ترجمة القاضي أبي بكر الباقلاني نصوص لا تقل دلالة عن النص السابق. ففي صدر ذلك الفصل يقول مؤلف النثر الفني (ص٦١):
(إن الباقلاني ومعاصريه رأوا أن في الإمكان أن يوازنوا بين قصيدة من الشعر وسورة من القرآن وإن لم يتحد الموضوع) وهم لم يفعلوا ولم يوازنوا بين قصيدة وسورة، لأنهم كانوا أبصر بالنقد وأرعى لحرمة القرآن من هذا، ولكنهم تعرضوا للشعر ونقدوا بعض عيون قصائده، مبينين عيوبها غير مغفلين محاسنها، كما فعل القاضي رحمه الله، وكما ينبغي أن يفعل الناقد البصير حين يتعرض لما فيه محاسن وعيوب. أما القرآن فقد كانوا يعلمون عن بصيرة ويقين أن محاسنه فوق أن يحيط بها علم عالم أو نقد ناقد، فكانوا يكتفون بالبحث العام في وجوه الإعجاز موضحين آراءهم بالأمثلة يضربونها من بعض الآيات وبعض السور من غير قصد إلى مقارنة أو موازنة حيث الفرق هائل والبون شاسع بعيد
ثم يقول صاحب النثر الفني في نقد الباقلاني وأمثاله:
(وهذا النحو من النقد يعد من المحاولات البارعة في الأدب العربي ولا عيب فيه إلا التحامل والإسراف)! ثم يحاول أن يوهم القارئ أنه هو يصدر عن غير تحامل وإسراف وأنه يحكم بالعدل بين فريقين، فيمضي يقول:(فإن خصوم القرآن كانوا يأبون إلا الوصول إلى شواهد يحكمون لها بالفضل، والباقلاني كان يعمد إلى القصائد التي يعرف فيها الضعف ليصل دائماً إلى الحكم للقرآن بالفضل) ص٦٢
وهو لم يأت بمثل لما كان يفعل خصوم القرآن، كما أنه يعلم أن الباقلاني في كتابه إعجاز القرآن لم يتعرض إلا لما أجمع أهل الأدب أنه من عيون الشعر كمعلقة امرئ القيس، لكن صاحب النثر الفني في سبيل مذهبه لا يبالي أن يفتري على الباقلاني، ولعله افترى على من سماهم خصوم القرآن