والعجيب من أمره أنه بمضي على وجهه بضرب الأمثال لرأيه ذلك من القرآن إذ يقول:(فإن أراد أحد شاهداً على ما نقول فإنا تفتح المصحف عرضاً بدون تخير، ثم ننقل آيات لنسأله أن بعين ما جاء فيه غريباً عن الأساليب العربية. ولنختر خمس آيات من مطلع سورة الأنبياء: (اقترب للناس حسابهم وهم في غفلة معرضون. ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدثٍ إلا استمعوه وهم يلعبون. لا هية قلوبهم، وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر مثلكم أفتأتون السحر وأنتم تبصرون. قال ربي يعلم القول في السماء والأرض وهو السميع العليم. بل قالوا أضغاث أحلام بل افتراه بل هو شاعر، فليأتنا بآية كما أرسل الأولون))
ومن قبل أن يستتم المعنى بالآية السادسة على الأقل (ما آمنت قبلهم من قرية أهلكناها، أفَهُم يؤمنون) جعل يسأل القارئ (فأين تكون غرابة الأسلوب في هذه الآيات الخمس؟ وأين يكون السياق الفني الغريب عن الأعراب؟ أليس مرجع الروعة في هذه الآيات إلى المعنى والروح؟ أترونها تمتاز بالسجع؟ وكيف والسجع كان معروفاً قبل القرآن؟ أترون ألفاظها متخيرة منتقاة؟ هو ذلك ولكن كيف يدور اختيار الألفاظ؟ أترون لاختيار الألفاظ مداراً غير موجبات المعاني والأغراض؟) أسئلة يرسلها على القارئ كأن القارئ حكم في الموضوع، وليس كل قارئ يستطيع الحكم فيه. ومع ذلك فإن صاحب النثر الفني قد دل بتلك الأسئلة على أنه ليس من الأدب ولا من صحة التفكير في شيء، وإلا فأين في اللغة العربية كلها يجد خارج القرآن أسلوباً كأسلوب تلك الآيات الخمس؟ ليدل قراء العربية عليه إن كان يستطيع. وأمامه الآيات قد عرف معناها - إن كان قد عرفه - فليعبر عن المعنى، وليحتفل، ولينظر أين يصل به الجهد. بل ليختر آية منها، أيها شاء، وليقصر محاولته عليها ولو بتغيير لفظ، أو تغيير حرف، أو تغيير ترتيب، ثم لينظر هل يمكن أن يأتي بشيء يقبله منه أهل العربية أنه عدل الآية، أو قرب منها، أو يمكن أن يوضع وإياها في ميزان. إنه التحدي القديم أطرحه في أبسط صورة عليه الآن من جديد
ويزعم زكي مبارك أن السياق الفني في تلك الآيات ليس غريباً عن الأعراب. فمن أين له ذلك وهو يقول أن: (ما نقله الرواة من النصوص لا يكفي لتعيين أساليب النثر في العصر