بما أوتى من تضلع في اللغتين العربية والفرنسية أن يعرب عن الدقائق فيهما. قرب (أزهار الشر) إلى شميم العرب وقد استعصى بودلير على أبناء جلدته فكيف حاله عند أهل الضاد؟ لقد جاءهم الأستاذ عبد الرحمن بمآخذ شاعر الرمز في فرنسة، لكنه نعته بالرجيم وحق له هذا؛ فهو شاعر بالزهر وراجم بالشوك. عقد معانيه وضيق مبانيه، حتى خرج على المألوف، وكانت أشعاره كجوز الهند لا يوصل إلى ذوب مائه وحلاوة طعمه إلا بعد كسر قشره. وبعد أزهار الشر طلع الأستاذ صدقي على قرائه بألوان من الحب ترجم فيها إحدى عشرة أقصوصة لأعلام هذا الفن في الغرب مما يستهوى خيالنا الشرقي ولا تنبو عنه أذواقنا. وقد كشف فيها عن اختلاف المزاج والخصائص بين قوم وآخرين؛ فكانت ترجمته المختارة ناهضة على بصيرة نفاذة إلى ما وراء السطور في هذه التلاوين التي أعرب عنها
لقد وسم الأستاذ صدقي كتابه الجديد من اسم الأقصوصة الأولى. ولا جرم أنها على إيجازها تبين فن بلاسكو إيبانيز الذي يطبيه زهو الشباب وأناقة الجمال، ويبدو اللون الأول من الحب في نفس أوديت التي روعت وفجعت حين رد إليها زوجها من ساحة الوغى مبتور اليدين والرجلين مفقود العين، وكأنه شق أنمار الذي حدثتنا عنه أساطير الجاهلية، فتولى عنه جزعة فزعة ويشركها بهذه النفرة الكلب الذي وصفه الفلاسفة والشعراء بالمحبة وصدق المودة، وينكشف في أعقاب هذه الأقصوصة لون آخر يثمل أشرف ألوان الحب وأبقاها، ذلك هو حب الأم التي جنت على ابنها الجريح فضمته بروحها وواسته بعينها أما قصة (الصمت) فكأن زينون الإيليائي فيلسوف الحركة والسكون أفرغ عليها من روح سكونه صمتاً رهيباً سادراً في عمقه، وقد نجم هذا الصمت من بنت كاتمت أباها القسيس وأمها سراً في نفسها حتى انتحرت فمات معها هذا السر، ولم يحاول القصصي أندرييف الروسي اكتناه السر وإنما تركه لحيرة القارئ الذي يشفق على ذلك الكاهن الشيخ وقد فتحت له على كرسي الاعتراف مغالق النفوس ولكنه عجز عن استجلاء السر في نفس بنته حتى زار قبرها في ليلة ساجية وأخذ يناديها: - فيروتشكا. بوحي بسرك. . .
فسمع الكاهن صوتاً رهيباً بغير كلام هو صوت الصمت العميق الذي بقى يعلو مرهفاً مستدقاً، حتى ملأ سمعه