وازنها بالآثار الفنية الخالصة متخذاً حجته من ضياع كثير من نتاج الأولى وبقاء كثير من الثانية في ذاكرة الزمان، وحين قرر أن الأدب الأوربي لم يبلغ مبلغه العظيم بفضل نزوله معترك الحركات الإصلاحية، وإنما بفضل قيمته الفنية، وأن الآداب الأوربية لم تحترم يوماً فناناً أو أديباً لأنه مصلح، ولكنها قد تحرم المصلح إذا كان أدبياً أو فناناً، وأنه ينبغي للنقاد والمصلحين أن يملوا على الفن اتجاهاً بعينه ولا يجوز لهم أن يوصوه بالحكمة والإصلاح إلا أن يشاء هو ويرضى. لأن الفنان صانع المصلح، ومصلح المصلح. . . وحين قرر مع الأستاذ الكبير العقاد أن اتجاه التاريخ الإنساني متقدم من الاجتماعية إلى الفردية وقرر أن الوعي الاجتماعي في الحيوان هو الذي جعل الحيوان حيواناً
إن المصلح هو الذي يمهد للجماعة أن تحيا وتستكمل عناصر نموها وكمالها حتى يكون فيها فنانون وعلماء وقادة وصناع وزراع. . . حتى يكون فيها جذور الحياة وثمارها وأزهارها. . . وعمله هو السابق المهيأ لنضج الملكات الفنية والكفايات الأدبية التي ترد في عهود الجمود والجهالة موارد محدودة ومشارع آسنة. ولا جدال في أن الكفاية الفنية والأديب تتسع وتعمق كلما كثرت أمامها منابع الوحي وجداول الأفكار والأعمال والمشاهد. ومن الذي يهيأ لها هذا كله غير المصلح الذي تستهوي نفسه دائماً حياة النفع العام التهذيب العام والكمال العملي، ويأخذ نفسه من نفوس أمته ويتسع قلبه لمؤثرات الحياة والاجتماع ويدرك أكثر أسرارها؟
وقد يكون الفنان - وهو في الغالب محدود الهواية - يهوى جانباً معيناً من الحياة ويغلبه وجدان واحد يستولي عليه ويصبغ إنتاجه بصبغة واحدة، فلا يستطيع أن يدرك جوانب الحياة الأخرى إلا إذا كان فناناً عبقرياً موسوعياً واسع الثقافة متعدد الأوتار؛ فإنه حينئذ يلتقي بالمصلح بل يكون هو المصلح. . . إذ أن المصلح في واقع الأمر فنان ولو لم ينتج أثاراً فنية. بل هو أعظم من فنان. . . هو (مخرج) يخرج حياة أمته وينسقها وينظم شؤونها ويعرضها عرضاً جميلاً. والمخرج كما يعلم الأستاذ الحكيم أصبح الآن هو الكل في الكل في إبراز الفنون العليا في الحياة الحاضرة. ولولاه لم يستطع الفن أن يغزو الحياة الآن هذا الغزو الشامل، ولم يكن لكثير من الفنانين الفرعيين إلا ذكر ضئيل
المصلح هو رائد (فن الحياة) وهو لا شك أعظم الفنون! لأن الحياة يجب أن (تعاش) أولاً