لقد أعدت قراءة المقال مرات ومرات، فكان يتجلى لناظري ونفسي أنني أطالع مجلداً ضخماً عن الشاعر الخالد، لا مقالاً موجزاً فيه الفكرة العابرة والنظرة السريعة
الواقع أنني لا أدري - والله - بماذا أصف هذه الفقرات البليغة النابضة:(. . . كان في ظلام الرحم، وولد في ظلام العشية، ثم عاش في ظلام البصر، وانتهى إلى ظلام القبر. ومن هذا الظلام المتصل نسج القدر حياة أبي العلاء، وأنشأ عواطفه وسود فلسفته، وأبهم عقيدته، وأوحش نفسه! ومن هذا الظلام أيضاً تفجر النور كله على قلبه وعقله؛ فكان آية من آيات ربه الكبرى في ذكاء الفهم ولطافة الحس، وقوة الحفظ ودقة التخيل). . .
(صاحب أبو العلاء الزمان ولا بس الناس وراود السعادة حتى استحار شبابه، فلم تزده الأيام إلا يقيناً بعجزه الطبيعي عن مجاراة الأنداد في سباق الحياة، وعن مرضاة النفس بلذات العيش، وعن منازلة الخصوم بسلاح الإفك، فنقلب إلى داره نافضاً كفيه من دهر لا رجية له فيه، وعالم لا صديق له به، ونعيم لا نصيب له منه!)
(كأن أبو العلاء في شبيبته نسيم زحمة، ثم صار في كهولته عاصفة دمار! ولعله لو كان بصيراً متفائلاً كالجاحظ، أو ضريراً شهوان كبشار، لتبدل حكمه على الدنيا وتغير رأيه في الناس!) أأصف هذا بسحر التعبير، وبنصاعة التدليل، وبدقة الملاحظة، أم أصفه ببراعة المنطق، وعمق التحليل، وبهر الإحاطة، أم أنعته بتلون - الاتساق، وإشعاعات العبقرية ومقدرة الفنان؟!
(مكة المكرمة)
حسن عبد الله القرشي
الأستاذ عبد الرحمن البرقوقي
في الأسبوع الماضي انتقل إلى جوار الله شيخ من شيوخ الأدب، وعلم من أعلام الصحافة، هو الأستاذ (عبد الرحمن البرقوقي) منشئ مجلة (البيان)، وصاحب المؤلفات القيمة في الأدب والتاريخ. فجأته المنية وهو مشغول بإعداد الجزء الثالث من كتابه (الذخائر) فأسكتت قلباً كان ينبض بأنواع المعرفة، وأسكنت قلماً كان يجري بمعاني الجمال. والأستاذ البرقوقي