أثاروا الشكوك وزعزعوا العقائد، وإن خدموا الثقافة خدمة جليلة.
١٢ - ويصلح سقراط ما أفسده السفسطائيون، وينشئ نظرية المعرفة القائمة على الإدراكات العقلية والمعاني الكلية، والتي جعلها أساساً للفضيلة كما جعل الجهل أساساً لكل الشرور، وتجاهل عواطف المرء وشهواته؛ فكانت نقطة الضعف في فلسفته التي ردت إلى الناس إيمانهم بالحقائق الخارجية على أساس ثابت غير الأساس القديم الساذج الذي هدمه السوفسطائيون. وقد انقسم أتباع سقراط بعد موته إلى طوائف ثلاث، فانصرف الكلبيون عن زخرفة الحياة وآثروا التقشف، وزهدوا في العلوم والفنون. بل دعوا إلى الجهل مكتفين بالفضيلة التي تكفل لهم السعادة! أما القورينيون فقد خالفوا الكلبيين في طريق الوصول إلى الفضيلة ولم يروا السعادة في الزهد والتقشف، بل رأوها في اللذة والاستمتاع بكل ما تصبو إليه النفس في حدود الاعتدال حتى لا تكون النتيجة شراً، وكلما كانت اللذة حسية كانت في نظرهم أضمن جلباً للسعادة من اللذة الذهنية، ولهم في شرح الملذات كلام طويل عجيب - أما الميجاريون فقد نشدوا السعادة - أعني الفضيلة - في حياة التأمل والمعرفة - في التعمق الفلسفي، واستكناه حقيقة هذا الوجود
١٣ - ثم كانت نظرية المثل التي قال بها أفلاطون، وأن لكل شئ مثالاً من الكمال مجرداً من الحس يسعى إليه، فهو يجعل المثل ذوات مستقلة عن الأشياء لها وجود قائم بنفسه، وجعل مثال الخير أساس جميع المثل: ومع أن أفلاطون يعترف بوجود إله خلق العالم ويمسكه ويدبر أموره فهو يتردد بين الوحدانية والتعدد، ولا يحدد العلاقة بين الله ومثال الخير؛ والعالم عند أفلاطون عالمان. عالم الحقيقة وهو عالم المثل، وعالم الظواهر وهو هذا العالم المحس، وهو صورة لعالم المثل. ثم هو يؤمن بالتناسخ، فتعود النفس السعيدة إلى عالم المثل وتبقى فيه حقبة ثم تعود فتحل في إنسان آخر؛ فإن كانت شقية عذبت قليلاً ثم حلت في جسم مخلوق وضيع، والسعادة عند أفلاطون هي الإحاطة بعالم المثل، وفهم العلاقة بين المثل والمحسوسات والتمتع بالمتع البريئة، ثم تحصيل أكبر قدر من الثقافات، ونرانا من أفلاطون أمام ثالوث عجيب: المادة، والمثل، والله، وكلها قديم. وهذا هو الضلال
١٤ - وقد نقد أرسطو نظرية المثل وهدمها من أساسها لما خلق أفلاطون من هذا العالم الخيالي الذي يوازي هذا العالم المدرك، ولأنه لم يستطيع تعليل كليهما ولا تعليل الحركة