التزموا هذين في الحديث ثم أشاعوهما في العلوم الأخرى فصار ديدنا لكل عالم ومتعلم. وكان من تثبتهم أنهم لم يكتفوا بما يكتب وحده وسموا من يعتمد عليه صحفياً. والتزموا السماع من المشايخ الموثوق بهم والقراءة عليهم، والاستجارة منهم، فلم تقبل رواية شفوية أو مكتوبة إلا بسند مقبول ولم تقبل الكتب إلا بنسب يصلها بمؤلفيها. لم يقصروا عنايتهم على كتب الدين، بل نالت كتب الأخبار التي لم تمت إلى الدين بصلة أو التي يتحرج منها المتدينون كأخبار الشعراء والمغنين، كثيرا من عنايتهم. وحسبنا كتاب الأغاني. وكثيراً ما نجد دواوين الشعراء في نسخ عليها سماع يصحح نسبتها إلى أصحابها. وقد وضعوا للسماع أصولاً التزموها واهتدوا بها. ومن عجيب ما روى من التثبت في الرواية أن أبا علي القالي البغدادي الذي رحل إلى الأندلس وأدب الحكم المستنصر ولي عهد عبد الرحمن الناصر، أعار تلميذه الحكم كتابا من كتبه فأبقاه الحكم عنده مدة طويلة فلما رده إلى أستاذه أسقط الرواية به وقال: لا آمن من أن يكون لحقه تغيير وهو عند الحكم
هذا وقد كان التعليم في أكثر مقاصده يراد به وجه الله وحفظ الدين وما يتصل به أو تكميل النفس، والاستجابة لنزوعها إلى المعرفة. ولم يكن موصولاً بالمناصب والمرتبات كما نرى في هذا العهد. لم يكن أهل العلم مضيعين ولم يكونوا محرومين من الجزاء الحسن، ولكن لم يكن طلب العلم مرتبطا بالشهادات والدرجات ارتباطه في هذا العصر، بل اختلف علماؤنا في جواز أخذ الأجر على التعليم، واستقبحوا أن يطلب العلم للمال والجاه ونحوهما
وسنذكر بعد ما قاله بعض العلماء حينما أنشئت المدارس ورتبت فيها الوظائف لطلاب العلم
دور العلم
كان طلب العلم في المساجد وفي دور العلماء أحيانا، وكانت خزائن الكتب مباءة درس كذلك. ثم أنشئت مدارس للتعليم خاصة
فأما المساجد فقد كانت دور علم في البلاد الإسلامية على اختلافهما في هذا ولاسيما المساجد الجامعة. فالجامع العتيق في مصر وهو المعروف اليوم بجامع عمرو كانت فيه دراسة متصلة. وكان به في بعض العصور أربعون حلقة للدرس لا تبرحه، وبهذا الجامع درس الشافعي وتلاميذه، وبه أملي الطبري ديوان الطرماح. وفيه نشئ أبو تمام، وغشى حلقاته المتنبي