للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وهو عصر لم يكد يتأثر بالثقافات الشرقية التي عاش بينها بحيث يخيل إلينا أن تيتيوس ليفيوس المؤرخ الروماني الشهير قد أصاب الحقيقة عندما قرر أن المدن اليونانية التي نشأت بالشرق إذ ذاك كانت (كجزر يونانية تضربها من جميع النواحي أمواج بحر من البرابرة)، ولقد كان الإغريق ينظرون إلى شعوب الشرق نظرة الغالب للمغلوب، نظرة السيد للمسود، وكانت شعوب الشرق بدورها تمقت أولئك الغزاة وتصدف عنهم، ولقد وجدنا في دستور نيوقراطيس ما يحرم على الإغريق الزواج من المصريات، وكانت مدن الإغريق في الشرق تعيش على النظام اليوناني، فللكثير منها مجالس تشريعية (إكليزيه وبوليه)، وحكام كحكام المدن الإغريقية الأوربية وإن تكن اختصاصات تلك المجالس وهؤلاء الحكام قد كانت شكلية استشارية أكثر منها فعلية نافذة، وكانت السلطة الحقيقية بيد الملك

لم يصبغ الإغريق إذن بلاد الشرق بصبغتهم ولا لقنوه ثقافتهم في ذلك العصر، بل ظلوا غرباء عنه لا يكادون يؤثرون فيه أو يتأثرون به، وإنما تداخلت الثقافات في العصر الروماني وبعد ظهور المسيحية حيث امتزج التفكير اليوناني بالإيمان الشرقي في الأفلاطونية الحديثة التي هزت الروح الإنسانية كلها في القرنين الثاني والثالث بعد الميلاد

عصر الإسكندرية إذن عصر إغريقي بحت، وهو مجرد اصطلاح تاريخي. فالحديث عن أدب الإسكندرية يتناول كل ما قيل من شعر ونثر في البلاد اليونانية كلها خلال ثلاثة قرون.

والملاحظ على ثقافة ذلك العهد أنها أصبحت ثقافة علمية محصلة أكثر منها أدبية خالقة، كما أصبحت عالمية لا قومية وصناعة لا حياة. ولا غرابة في ذلك، فقد انتقلت الحياة الفكرية من الساحات العمومية (الأجوار!) إلى المكاتب والصالونات، انتقلت من حرارة الحياة إلى برودة الكتب، انتقلت من الحاضر إلى الماضي ومن الواقع إلى الفكر المجرد، نمت الدراسات التاريخية: تاريخ عام وتاريخ الفن والفنانين والكتب والكتاب، تاريخ الفلاسفة والعلماء. لقد أبتدأ العالم يعيش على ماضيه، ويجد في ذلك الماضي خيراً من حاضره. ونمت الدراسات العلمية:

رياضة وطبيعة وطب وتاريخ طبيعي وجغرافيا ونحو وفقه لغة وموسيقى وكل هذه

<<  <  ج:
ص:  >  >>