ففي صورة هذا الغلام الشاخصة هنا وفي حركته المرسومة كأنما على الشاشة جمال فني لا شك فيه
وأجود ما وقع لسويد بن كاهل اليشكري أبياته التي يصور فيها حاسده صوراً شاخصة فيها الملامح الحسية والانفعالات النفسية. وجميعها صور وظلال لا معان مجردة:
رُبَّ من أنضجْتُ غيظاً قلبَهُ ... قد تَمنَّى لي موتاً لم يُطعْ
ويراني كالشجا في حلقه ... عَسِراً مَخْرَجُهُ ما يُنتزع
مُزبدٌ يَخطُرُ ما لم يَرَني ... فإذا أسمعته صوتي انقمع
لم يضرني غير أن يحسدني ... فهوَ يرْقو مثلما يزقو الضوع)
فتتم الصور المزرية التي يرسمها له بعد أن تترك في النفس ظلالاً واضحة، وفي الحس صوراً شاخصة، فيها كل جمالها الفني الذي يتيحه التصوير والتخييل
ويكثر التصوير في الشعر الجاهلي، ويقل في الشعر الإسلامي، على عكس ما كان منتظراً بعد وجود القرآن بين أيديهم، وتعبيره كله قائم على الطريقة التصويرية، ولكن قاتل الله (المعاني)، لقد أصبحت كل هم الشعراء وغلبت طريقة العلم على طريقة الفن، فتقهقر الأدب العربي من هذه الناحية، بجانب خطواته التي تقدمها في نواح أخرى
فإذا نحن تجاوزنا ابن الرومي - وهو فريد في تاريخ الأدب، العربي كله - لم نعثر إلا على فلتات في ديوان كل شاعر، قام فيها التعبير بمهمة التصوير. فلتات قد تكون مائة وقد تكون ألفاً، ولكنها تبدو ضئيلة جداً بين ملايين الأبيات من الشعر العربي على ممر الأجيال
وإن أجود ما وقع للشعراء هنا كذلك، لهي الأبيات التي عبر عنها بطريقة التصوير والتخييل. مثل بيت مسلم بن الوليد الذي نقلناه في كلمة ماضية:
تمشي الرياح به حسرى مولهة ... حيرى تلوذ بأكناف الجلاميد
وما فيه من تشخيص وخلع الحياة على الرياح
ومثل بيتي كثير:
وإني وتهيامي بعزة بعد ما ... تخليت مما بيننا وتخلّت
لكا لمرتجى ظل الغمامة، كلما ... تهيأ منها للمقبل استقلت
وما فيها من حركة متخيلة: حركة حسية تقابلها حركة نفسية في تساوق واتفاق. ومثل بيتي