وقد تضافرت الحوافز البعيدة، والجهود الموفقة الرشيدة، على استثارة هذا الكنز العلائي الذي كان مغيباً في ظلمات الأيام، وكان هذا دليل اليقظة الأدبية الصادقة في هذا العصر، كما أسلفنا القول - منذ عشرين عاماً أو تزيد - في مقدمة اللزوميات، كما كان هذا التقدير خير جزاء للعاملين
٧ - صديق وأستاذ
لقد كان من دواعي السعادة التي ظفرنا بها في مستهل حياتنا الفكرية، أن شببنا ونحن شديدو الولوع بهذا الأديب الموهوب، وما زلنا مأخوذين بما نظم ونثر، نديم التفكير في فلسفته العالية التي تمتح من قريحة صافية، مفتونين بنظراته التي تمدها بصيرة كأنما أودعها الله حرارة كوكب آلق لا يفتأ يشع، حرصاء على استنفاد الوسع في نقصي بدائعه. فكان (أبو العلاء) لنا - منذ نشأتنا الأدبية - صديقاً بل أستاذاً لا نريم مجلسه، ولا نمل حديثه، فما نزال نبدي في روائعه ونعيد، حتى لقد أفقدتنا تلك الروائع كراهة الحديث المعاد.
والحق أن الاستماع إلى البيان الساحر كالنظر إلى الجمال الساحر، كلاهما أخاذ يستولي على نقس الرائي والسامع جميعاً، متجدد الفتنة أمام أعينهما أبداً، كأنما عناه (ابن الرومي) حين قال:
(ليت شعري إذا أعاد إليها ... كرة الطرف مبدأ ومعيد
أهي شيء لا تسأم العين منه ... أم لها - كل ساعة - تجديد
بل هي العيش لا يزال - متى استع ... رض - يملى غرائباً ويفيد)
٨ - سحر البيان
ولولا هذا السحر الذي غمر نفوسنا من الأدب العربي، وذلك الولاء الذي طوينا عليه جنوبنا للفن العلائي، لما تيسر لنا أن نظفر بتذليل ما لقيناه من المصاعب في تحقيق النصوص الكاملة لرسالتي الهناء والغفران، وترجمتهما - مع ما ترجمناه من رسائله الأخرى وأشعاره - إلى الأسلوب العصري.