والنفس بتشبيه طريف ومثل قريب فافترض وجود حمار جائع ظمآن على مسافة معينة واحدة من إناء فيه ماء عذب، ومعلف فيه تبن وشعير. . . وطفق الحمار يفكر على جوعه وظمئه بأي الأمرين يبدأ: أيملأ بطنه أولا أم يروي ظمأه؟ فما يكاد يتجه نحو الماء مثلا حتى ينكفئ راجعاً نحو التبن والشعير!! وقد كان في وسعه أن يختار الذي يريد ويلتهم ما يهوى، ولكن الحمار المسكين بقي يفكر على ذلك النحو من المنطق العقيم حتى سقط جثة هامدة، ومات جوعاً وظمأ!!
هذه القصة الموجزة الخيالية تصور، غير حرية الاختيار، طبيعة التردد وعاقبة المتردد. فأما طبيعة التردد فقد شرحناها من الناحية النفسية، وأما عاقبة المتردد فهي كما رأيت: الفناء والموت. ذلك بأن الحياة تتطلب السرعة والحركة والعمل لا الجمود والإحجام. وكل من لابس الحياة وخاض غمارها فإنما ينبغي له أن يعمل ويعمل، لا يأبه بالموانع والصعوبات التي قد يصادفها في طريقة وتتعثر بها رجلاه، وإلا فان مصيره المحتوم التخلف عن الحياة، والانحدار نحو التفكك والانحلال. يذهب غويو إلى أن العمل المستمر أو الفاعلية الشديدة إنما يجب أن تكون المثل الأعلى في الأخلاق، لأن الحياة ليست ترددا ومحاسبة وإنما هي عمل وإنتاج , ` , ` ,
ولسنا نحب هنا أن نقيد الفاعلية الشديدة بالخيرية والشرية، وإن شئت فقل إننا لن نتعرض للخيرية والشرية في صدد الحث على الفاعلية الشديدة والجهد الدائم.
وعلم الأخلاق الحديث المبني على التجربة والمشاهدة يأبى ذلك وينفر منه كل النفور. فما يدربنا أن الأمر الذي نحكم بخيريته وشرف غايته يصبح شراً كله إذا نحن طبقناه ومارسناه في الحياة العملية. فالخيرية التي نخلعها على طائفة من الأمور دون أخرى هي خيرية سابقة للتجربة ومتقدمة على المشاهدة , فلنزاول إذن كل الأمور ولنتصل بكل شيء، ولتكن حياتنا ملآى مستفيضة الجوانب، متصلة الحركة، قوية الإرادة
والإرادة العاملة المحركة كنه الوجود وأس الكون كما يقرر شوبنهور إذ يعتقد أن الأحياء جميعاً محكومون بإرادة باطنية لا شعورية عمياء، دائبة الهمة والنشاط، متجددة الشهوة والرغبة، تسيطر على الفكر والعقل سيطرة عظمى.
إن صاحب الإرادة القوية سيد عواطفه وآرائه، فرغائبه تنقلب آناً إلى إرادة فاعلة، ليس