للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

هذه المرة التي لقيتها فيها خيراً منه في النشاط ودلائل القوة في كل مرة رأيته قبلها، فقد هادنته العلل في ذلك الحين، وناهض المرض وصاوله حتى تغلب عليه إذ ذاك، ولكن من كان يدري أن (شوقي) سخر صريعاً في الميدان بعد أشهر قليلة من هذا الانتصار. وان تلك العلل إنما كمنت لتتجمع للوثوب، واختفت متراجعة لتظهر على حين غفلة، وهادنت خداعاً، والحرب خدعة، من كان يدري ذلك ومن المصدق بهذا المنقلب العاجل؟. . لقد كان شوقي في تلك الساعة قرير النفس، رخي البال، طافح البشر، وكان صورة من الطبيعة الباسمة في ذلك اليوم، وهكذا يكون الشاعر هو والطبيعة صنوان لا يفترقان. . تنظر إليه فتقرأ في جبينه المتغضن خطرات السنين المتعاقبة، وأصداء الزمن الماضي بما فيه من حوادث وشئون، كان لسانها الناطق وحافظها للأجيال المقبلة من الاندثار، فإذا أمعنت في سطور ذلك المحيا داخلت نفسك هزة وانتفاضة هي هزة الإجلال والمهابة، حيث ترى ذلك العقل الجبار وذلك الذهن المتقد يشع نوراً وحكمة، وذلك الخيال المطلق أعني به الشاعر أو روح الطبيعة الثاني، ذلك الذين يهم في كل واد، ويسبح في كل لجة، فيحلق مع الطيور في سمائها ليساجلها أنغامها، ويعانق الطبيعة في خمائلها ويتغنى بجمالها، وقد تراه فتبصر فيه خفة السرور وتقرأ عليه نضرة النعيم، وقد تراه فتجده بائساً لبؤس غيره، أنيس المحزون، وعزاء الضعيف، يشفق على المنكوبين وتذهب نفسه حسرات عليهم

وتقرأ في عينيه الذابلتين اللتين أتعب أجفانهما السهد وتعاقب الزمن، صفاء السريرة، وعفة القلب، وحدة الذكاء، وهي خير مترجم عن قلب الشاعر، ذلك القلب العامر بالفضيلة والخير. وإذا استمعت إلى حديثه العذب أسرتك طلاوته، واجتذبتك حلاوته، يبلغ إلى فؤادك قبل سمعك فلا تمل منه لغة، ولا تسأم فيه لهجة، وشوقي إذا حدث تخير ما راق لسامعه، ورقت حواشيه، وأتى بكل طريف قشيب، تستهله طرافة في التعبير، وتختتمه دعابة أو عبرة في الحديث تقتضيها الحال ويستدعها المقال، وكان الحديث جامعاً وكان إقبالنا عليه بالغاً، تناولنا شئوناً مختلفة في أحوال (العراق) والأدب العربي في هذا العصر وبعض مشهوري الشعراء والكتاب، وقضينا في هذا حينا حتى قدم علينا الأستاذ محمد عبد الوهاب، وكان حديث القدوم من العراق ثم اكتمل العقد، وانتظم الجمع فنهضنا إلى داخل الدار حيث مائدة الطعام.

<<  <  ج:
ص:  >  >>