وكانت هذه الصيحة تتردد في مجالس الأدباء ورجال الفنون خاصة؛ فكان يطيب لي أحياناً أن أسليهم وأعابثهم في آن واحد، فأسأل أحدهم: بكم تبيع ما وهب الله لك من الشاعرية؟ وأسأل غيره: وأنت بكم تبيع ما وهب من الذوق الجميل؟ وأسأل غيرهما: وأنت بكم تبيع ما وهب لك من الوسامة والقسامة؟
فمنهم من يقول أنه لا يبيعها بمال الدنيا، ومنهم من إذا سألته تقويم الملكات بالمال دون الرضى ببيعها وشرائها تردد في ذلك وذكر الألوف ومئات الألوف، وهو لا يظن المغالاة، ولو صعد بالتقدير إلى الملايين
فهذى الألوف يا هؤلاء إذن (بدل مفقود). . . وأنتم أول من يرضى بتسويم السلعة على هذا المقدار!
ولا أدري لم لم تخامر في قط نقمة على نظام الكون من هذه الناحية في أوائل الشباب حيث تكثر الشكوى ويكثر الطموح، أو فيما بعد ذلك حيث يكثر إيمان الإنسان بحقه في الراحة والرجحان، ولعلها قلة الاكتراث بالمال هي التي جعلتني أصغره في حسابي أن يكون التفاوت فيه علة الشك في نظام الوجود.
فقديما - قبل أربع وعشرين سنة - عرضت لهذه المسألة في مقدمة الطبعة الثانية من مجمع الإحياء، فقلت يومئذ: (لم أزل منذ دارت في نفسي هذه الخواطر أسمع حجة واحدة هي أكثر ما يورده الناس على فساد نظام الكون، وهي مع ذلك أوهن الحجج وأظهرها بطلانا، وتلك الحجة هي تباين موازين الجزاء وتنزلها على خلاف المقرر المسلم به في عرفهم. فهم يقولون: أما كان العدل يقضي بالتسوية بين الناس في منازلهم وحظوظهم؟ أليس من الغبن أن يغتضر الشاب ويؤخر الهرم، وإن يحرم العامل ويغدق على العاجز وأن يرتفع الوضيع ويبتذل الكريم؟ وإن كان هذا مراد الأقدار أفما كان في وسعها أن ترضي كل مخلوق بنصيبه وتغنى كل طالب عما ليس في يده؟ وازدادت هذه الشكوى بعد الحرب الكبرى فسمعت في كل مكان، وكان لها فعل عجيب في تغير الأحوال، وستسمع في كل حين ما دام الاختلاف بين الناس فتكون من أقوى دوافع التيار الإنساني. . . والشاكون بهذا اللسان لا يداخلهم الريب في عدل شكواهم، وينسون أن أنانيتهم هي الشاكية المتلهفة على التغيير وإن ليس العالم هو المفتقر إليه، المتوقف نظامه عليه، وإن أحدهم ليقول في أيام