للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وسهل أن ألاقي أجراس الحركة بأذني وحاستي المحدودة. أما أجراس الصمت والسكون فعلي من ضجتها ضغط ثقيل أجتمع له بجميع حواسي وقوى نفسي!

الزمن

في (الكرنك) قضيت في الشتاء الماضي سويعات من الزمن! والكرنك أعظم رحبة من رحبات الأطلال الفرعونية؛ فهو أثر صناعي بشري ليس من الطبيعة. ولكن الزمن أضفى عليه من سحره ما جعله فيما وراء الوعي مني كأنه محراب من محاريبها. لفرط إيغاله في القدم حتى ليتصل ببواكير التاريخ الإنساني المعلوم ويتاخم منطقة المجهول من ذلك التاريخ

والزمن تشتد الحساسية به في هاته الرحاب حتى لكأنها مقبرته. نرى فيها مومياءه وجثوته تضحك لنا بفكين مقبوحتين وعينين مطموستين وشفتين مقلوصتين! وتغمرنا منه سيالات ورعشات حتى لنحسه حين نحس هذه الأطلال التي طالما رأت صباحه ومساءه وصيفة وشتاءه وظلاله وأفياءه وظلماته وأضواءه في يوم واحد معاد مكرور يشيب الصغير ويفنى الكبير ويبلى الحجر. . .

وبيني وبين الزمن علاقة سيئة! فأنا لا أباليه ولا أحفل به كثيراً. فالحياة عندي منذ أدركتها يوم واحد لا أزال في بهجة من تعاجيب صبحه وضحاه. .! وقد أقبلت على حدود الأربعين ليس بيني وبينها إلا خطوات ثلاث. ومع ذلك فأنا من حساسيتي بالطبيعة وأذواق الحياة أسير فيها كمبتدئ حياته أو كمبتدئ رحلته، يريد أن يتخفف من أثقال الزمن وأوقاره حتى يعبر الأسواق بجسم خفيف ونظر طليق لماح يرى كل يوم جديداً. . .

ومع هذا الشعور الذي يكاد يلازمني قد أحسست حين دلفت إلى معبد الكرنك بين صفين من تلك الكباش الرابضة منذ خمسة آلاف سنة تستقبل الوافد في وداعة وقوة، أنني قادم على الزمن شيخاً هرماً راعشاً راهباً ترهب وتعبد في الحجرات المظلمة والدهاليز المتداخلة والأقبية المسحورة التي تضمها أسوار هذا المعبد

وقد تركت لرفاقي حظ الاستماع إلى شرح (الدليل) وسرد التفاصيل، وأقبلت على أوهامي تلعب في ملاعب الأوهام القديمة التي كانت تعيش بها الإنسانية في تلك العصور السحيقة وتجسمها في التماثيل والتهاويل التي على عجزها وجمودها تثير خيال ناظريها واللائذين بها وتجعلهم يخلعون عليها ألوانا من حياتهم ويبادلونها أحاديث نفوسهم. . .

<<  <  ج:
ص:  >  >>