للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

العلمية لم تعارض يوماً ما التعاليم الدينية المقدسة، إلا أن ذلك لم يفده، بل استدعته روما إليها ليدافع عن نفسه ويبرر هرطقته. ولكن كان له في البلاط البابوي أصدقاء ومريدون من علماء غير متعصبين، فسمعوا لنقاشه، ثم سمحوا له بالعودة إلى فلورنسا. وعاد وهو يعتقد أن من حقه أن يتابع بحوثه دون إذاعتها. وكانت مهادنة بين الجانبين بعد عودته إلى فلورنسا ظل فيها سبعة أعوام ساكنا راكنا إلى قريحته العلمية الوقادة.

إلا أنه لم يكن من طبعه وجبلته أن يبقى ساكناً إلى الأبد، فطبع مطبوعات مختلفة مطولة ضمنها محاوراته ومناظراته في نظام الأرض، وعندئذ استدعي إلى روما مرة أخرى، ولكن ليقابل في هذه المرة بابا عابساً حانقا على رجل متمرد ناكر للجميل، ولم تقبل منه شفاعة، بل اضطر تحت تأثير آلات التعذيب إلى أن ينقض أفكاره، ثم حكمت المحكمة عليه بالسجن، إلا أن هذا الحكم لم ينفذ، وإنما استبدلوا به يكفر عن خطيئته بتلاوة أدعية التوبة، وهي من سبعة أبواب في الزبور مرة في كل أسبوع. وتتصل بهذا العبث الرسمي من جانب الكنيسة فكاهة طريفة وهي أن جاليليو في كل مرة عندما كان ينهض من ركوعه بعد تلاوته الأدعية وقسمه اليمين بنقض معتقداته في الفلك، كان يقول بصوت خافت (ولكن الأرض ما زالت تدور).

كانت هذه الكلمات تقال بصوت يكاد لا يكون مسموعاً ولكن فكر العالم بدأ يلتهب بهذه الشرارة، وكان جاليليو رمزاً لتوسيع حدود العالم برغم محاولات الصلف والتحكم لتضييق محيطه ولا يزال الكون دائراً على رغم عرقلة المعرقلين من رجال الدين والمتعصبين ضد دورانه.

فهل يعد خضوع جاليليو للكنيسة جبناً منه؟ إن لكل بطل ساعة جبن في حياته، وقد تقلب الزمن من عهد هذا الفلكي العظيم حتى اليوم، فرأينا الآن الجمعية الإيطالية الملكية تطبع على النفقة العامة كل مؤلفاته في واحد وعشرين مجلداُ، شاملة وثائق محاكمته ومضابطها، وكان جد راغب في تجنب التصادم مع تعاليم الكنيسة، فأذعن لحقها في تعليم كافة الناس الإيمان بالدين، وبلغ من ذلك أنه كان يؤمن في الظاهر بكل ما كانت تطلب إليه أن يؤمن به، وباعد بقدر استطاعته بين العلم والدين علماُ منه بما يجب أن يكون بينهما من مسافة سحيقة، وجعل آراء كل منهما منفصلة عن الأخرى.

<<  <  ج:
ص:  >  >>