للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

متين

والعيب الثاني قائم في منهج الدراسة فهو لا يزال المنهج التقريري كما عرفته القرون الوسطى مع أن مناهج الدراسة في كافة الجامعات أصبحت المنهج التاريخية ومن واجبنا أن نسلك مسلكهم فنوفر على أنفسنا قرونا من الزمان ولو أننا فعلنا لتغير دراساتنا كلها رأساً على عقب، فالنحو عندئذ لن ندرسه على أساس معايير للصحة والخطأ، فتلك دراسة مكانها في مدرسة الثانوية وإنما نتناوله كتطور تاريخي للغة منذ أصولها السامية إلا أنها انتهت اليوم باللهجات العامية، وهذه دراسة لا تعرف الخطأ والصواب وإنما تعرف التحول الطبيعي الخاضع لاعتبارات عضوية واجتماعية ونفسية. والبلاغة علم سنحذفه أصلا من برامجنا كما حذفته جميع الجامعات وتحل محلها دراسة الأساليب وتاريخ تكوينها والتميز بين اتجاهات الكتاب المختلفين وتحديد خصائصهم الروحية باعتبار أن الأسلوب صورة لملكات الرجل لا وسيلة من وسائل الأداء اللفظي فحسب. . .

وسوف نفطن عندئذ إلى شيء لم نسمع بوجوده بعد في جامعتنا وهو تاريخ اللغة، ففي كل الجامعات تجد كراسي لأساتذة كبار مضطلعون بهذه المهمة الشاقة وقد أتيح لي أن اتبع سنوات دراسة الأستاذ فرديناد برينو لتاريخ اللغة الفرنسية بالسربون. وكم كان يشجيني أن أستمع إلى هذا الشيخ الجليل وهو يقص تاريخ لغته، فإذا به يكشف لنا بهذا التاريخ عن العقلية الفرنسية كلها وقد رسبت على طول القرون في مفردات اللغة وتراكيبها ولقد كان يخيل إلى عندئذ أن هذا الرجل لا يلقي إلينا بعلم، وإنما يقص ذكريات حياته الخاصة، وذلك لطول معاشرته لتلك اللغة وإلفه لها ولقد أودع الرجل - رحمه الله - محصول عمره فيما يقرب من عشرين مجلداً في كل مجلد ما يقرب من ألف صفحة من القطع الكبير، واجمع الفرنسيون على أن هذا الشيخ الوقور قد أقام لفرنسا بكتابة هذا عن (تاريخ اللغة الفرنسية) تمثال مجد لن يفنى أبد السنين. وكم كان رائعاً يوم وفاته أن تحمل جثته إلى ساحة السربون ويأتي الوزراء ورجال الدولة ومعهم فصائل من الجيش وموسيقاه ليحيوا رفاته الطاهرة في مشهد وطني رسمي كان من أكبر ما اثر في نفسي إذ كشف عن عظمة هذه الشعوب التي كيف تقدس الفكر البشري.

والمنهج التاريخي كما سيجدد تدريسنا للغة، سيجدد أيضاً تدريسنا للأدب، فللأدب كما نريد

<<  <  ج:
ص:  >  >>