هكذا يبدأ المؤلف قصته فيرسم - منذ الصفحة الأولى - الخطوط الأولى في ملامح هذه الشخصيات الثلاثة التي هي محور القصة جميعا: مليم، خالد، احمد باشا خورشيد؛ ويرسم لهذه الشخصيات الثلاثة طريقها كذلك - لا طابعها وحده - فمليم (ينطلق في طريقه دون التفات وهو يضرب الأرض في عزم وإصرار) تلك طريقته أيضاً في جميع أدوار القصة! وخالد (يريد محياه ثم ينفجر وهو يرد على أبيه، ثم ينثني إلى حجرة المكتب ويغلق من خلفه الباب) تلك أيضاً طريقته في مستقبل الحياة: انفعال وانفجار ثم انزواء واعتزال، واضطراب دائم بين هذين الخطتين حتى ينتهي الصراع). وخورشيد باشا (داهية مراوغ يلذ له شعور القوة الذي يدفع بالقط إلى العبث بفريسته قبل التهامها. . وهو يرقب في سعادة أثيمة ما يختلج في صدر ولده من ثورة وما يلوح على وجهه من اضطراب وضيق) تلك طبيعته وهذه طريقه في القصة وفي الحياة!
هو استهلال بارع - كما ترى - وهي ريشة ملهمة تضع الخطوط الأولى فتشير إلى الخطوط الأخيرة. . . وقد يبدو أن القصة لم تسر في جميع مراحلها بهذه القوة وبهذا الوضوح. . . فيجب أن نلتفت إلى أن القوة والوضوح ليسا من أهداف المؤلف. . . وأن التموج والاضطراب هما قوام طبيعته وقوام طريقته. وقوام أهدافه المقصودة أو غير المقصودة ولكنا هي التي تتحقق على كل حال!
جعل المؤلف (مليم) هو بطل القصة وبه سماها. أما نحن فنرى (خالد) هو الشخصية الأولى فيها. فخالد شاب نشأ في طبقة الأثرياء - ابن خورشيد باشا - ولكنه سافر إلى إنجلترا وطاف بالبلاد الأوربية حيث كانت المذاهب الاجتماعية الحديثة، تصطرع مع الأوضاع التقليدية القديمة. ثم عاد فوجد نفسه غريبا بين أهله، غريبا كذلك في مجتمعه. أن رأسه محشو بالنظريات الحديثة وإنه لمتحمس لها كل الحماسة. ولكنه لم يكن ذا طبيعة عملية، تنفذ في عالم الواقع ما يجيش في نفسه من نزعات. كان خليطاً عجيباً من رجل الواقع ورجل الخيال. كانت تصطرع في نفسه وراثات مختلفة وتيارات متعارضة. كان صوفياً وشهواناً. كانت نفسه حلبة صراع بين شتى الاتجاهات. (ولو أتيح لأحد أن يكشف عن رأسه لوجد فيها حجرتين إحداهما يتربع فيها القرن العشرين بآلاته ومعادلاته. والثانية يمرح فيها القرن الثامن عشر وسط غابة يخترقها جدول) كما يقول مؤلفه