والحقيقة أن هذا الوعي الروحي الذي يقدر الشخصية الإنسانية ويحدد صلة هذه الشخصية بالروح السارية في هذا الكون ثم صلتها بسائر الأحياء والكائنات، نعم هذا الوعي هو الذي صقل النفوس المسلمة وهيأها لسائر الانقلابات الاجتماعية والعقلية لأنه وجهها وجهة واحدة وقضى على شعور الخضوع الرائن عليها فتنتج عن ذلك إحساس قوي بكفايتها وقدرتها على الفهم والتدبر.
ومن هنا ذلك الانقلاب العظيم الذي أحدثه الإسلام في تقدير العقل واحترام أحكامه باعتباره هادئ البشر - بعد الروح - في جهادهم نحو الكمال. فلقد كان الناس قبل ذلك أسرى موروثاتهم وتقاليدهم لا يصدقون إلا ما كان عليه آباؤهم، وما كان عليه آباؤهم هو الجهل والجمود، فدعاهم الإسلام إلى التفكير والتأمل وشبه الذين لا يعقلون منهم بالأنعام بل أحط منزلة (أم تحسب أن أكثرهم يسمعون أو يعقلون أن هم كالأنعام بل أضل سبيلاً)، ولذلك كان سلاح الإسلام الوحيد لغزو النفوس هو الحجة العقلية والبرهان الاقناعي. . . ويوم سال الكفار الرسول أن يأتيهم بما عددوا من المعجزات أجابهم دهشاً:(سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولاً!).
أليس في ذلك إيذان بأن البشرية قد بلغت طوراً لا يليق بها فيه أن تقنع بغير ما يميله العقل، وان الإسلام يتمشى مع هذا العقل؟ ثم ما قولنا في دين يجعل تفكر ساعة خيراً من عبادة ستين سنة؟ إنه - وربي - لدين يجدر بالبشرية أن تحوطه برعايتها وتجد في تفهم أغراضه ومراميه، لأنه كان فاصلا بين عصرين مختلفين من عصورها: عصر السحر والخرافات وعصر العقل والعلم، وبذلك نقلها نقلة وسعت آفاق وعيها وألهبتها شوقاً للمعرفة والاطلاع، كان ذلك إرهاصا لكل التطورات الثقافية والعلمية التي نعم بها العالم بعد ذلك.
وعلى أساس هذا الوعي الروحي والعقلي نقل الإسلام مبدأ التوحيد من منطقة العقيدة إلى مجال الاجتماع فثار على جميع الفواصل المصطنعة بين الأفراد والأمم، وحارب كل فكرة من شانها أن تجر إلى التنابذ التنافر، وقرر أن البشر وحدة لا تتجزأ كلهم من آدم وآدم من تراب، وان أكرمهم عند الله اتقاهم، واتقاهم إبرهم عملاً وأخلصهم سعياً، لا أكثرهم تهجدا وأطولهم عبادة، وإذا كان الناس قد خلقواً شعوباً وقبائل مختلفة فلكي يتعارفوا ويتعاونوا