للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كلاذع الجمر، ورأيت الدنيا قد أطبقت علي، وما هو إلا أن أنشج بالبكاء. فدنا الشيخ وأسر إلى أن أبشرى أم جوان، فوالله ما أدعك أبداً حتى يطمئن قلبك، واصبري غداً تأتيك الصهباء. وما أفقت حتى رأيتني كالمأخوذة وظمياء تنضح وجهي بآلاء. وبقيت الليل كله أطويه ساعة بعد ساعة حتى أصبح الناس، وقلبي يرجف، ودمعي ينهل، وكأنه في سمعي دوى النحل، حتى إذا قام قائم الظهيرة جاءت صهباء فقالت: يقول لك مولاي إنه يبني رفرفين من الديباج، وعشرة أثواب من الإبريسم، وبردين كذابين من الخز، وخمسين لؤلؤة لم تثقب. فما كذبت أن أعطيها ما طلبت. وغابت يومين ثم جاءتني مع المشي وقالت: يقول لك مولاي: لو أطلق أن لا يكلفك لفعل، ولكن الأمر قد استعصى عليه بعد توبته، وأن بيذخ (بنت إبليس) لتتقاضاه كفاء ما عصاه في طاعة الله. وإنها قد طلبت أن يذبح لها من الذبائح ما يسيل على جنبات الغور (مسكن الجن) حتى ترضى. قلت: كم يريد مولاك؟ قالت: بين المائتين والثلاثمائة. فوالله ما كذبت أن أعطيتها. فما غابت إلا يوماً أو بعضه حتى جاءت تطلب المنديل الذي أعصب به رأسي، فما كذبت أن أعطيها. ثم جاءتني من الغد عند الأصيل، فقالت: يقول لك مولاي لا تصلي العشاء الآخرة الليلة حتى يؤذنك. فوالله لقد كبر على ولكني أطعته، وإذا أنا أسمع في سدفة الفجر صوتاً كالمتحدر ما بين جبلين يقول: قومي إلى صلاتك. فقمت فصليت وما كدت حتى أذن الفجر. فلما كان بعد أيام جاءتني صهباء تقول: أبشرى! سيأتي مولاي الليلة. قلت: مرحباً به من ضيف. فلما دخل الليل وسكن الناس، جاء الشيخ لميعاده فسلم وسكت ثم قال: انظري ألي يا أم جوان. فنظرت في عيني كالنار المشعلة في الليلة الدامسة، وجعل يمر يده بين عيني وعينيه، فكلما احتجبتا عني أظلمت الدنيا في عيني، وإذا وقعت عيني في عينيه أضاء ما بيني وبينه كالسراج المتوهج، فوالله ما شعرت إلا وظمياء تنضحني بالماء حتى أفيق. قلت: يا ظمياء أين الشيخ؟ قالت: لقد أذنت له أن ينصرف بعد أن أعطيه من المال ما طلب. قلت: تباً لي أين كان عقلي؟ وكم أعطيته؟ قالت: ألف دينار ذهباً، وواعدك أن يأتيك بعد سبعة أيام بمأوى الخبيثتين.

(قال كلثم: وهذا اليوم ميعاده، ووالله لئن صدقتني يا عمر لقد حفظتك ما عشت في قلبي).

(قال عمر بن ربيعة)؛ (فوالله ما كنت أدري ما أقول، إلا أني قلت لها: أصدقك؟ لقد ضلت

<<  <  ج:
ص:  >  >>