(تكدست أكوام البشر في داخل الترام وعلى جانبيه، ومن خلفه ومن قدامه؛ واختلطت الأذرع والسيقان، حتى اصبح من المستحيل أن تقع العين على هيئة إنسان. فهذه ذراع، وهذا رأس، وهذا خصر. أما لمن هذا الرأس، ولمن هذه الذراع، وأين صاحب هذا الخصر أو هذه الساق، فهذا مالا يفطن إليه إنسان، وكثيراً ما يخيل للناظر إلى كتل البشرية المتراصة على سلم الترام، أن للجسم الواحد رأسين، أو للرأس الواحد جسمين، وأن أغلب الواقفين على سلم الترام ينافسون (البهلوان). فهذا واضح طرف قدميه على حافة السلم، وقابض على قائم الترام بإصبع، وهذا متعلق في عنق آخر متعلق بسروال ثالث. وهكذا).
ولمحة أخرى تبدأ حسية وتنتهي نفسية، ويتداخل فيها اللونان تداخل الأضواء والضلال، وهي تلي مباشرة صورة الترام:
(وبلغ الترام في أمان مصلحة حكومية، فتساقط الركاب عنه كما تتساقط الأوراق عن الشجر في يوم أشتد ريحه. وكانوا جميعاً من العمال، فساروا يتحدثون، فيحدثون صوتاً كدوي النحل. وراحوا يسيرون في نفس الطريق الذي قطعوه آلاف المرات قبل يومهم هذا، وكانوا يدبون كسلحفاة لا ينظرون أمامهم، ولا يلتفتون حولهم، بل ينطلقون كما ينطلقون كما تنطلق الدواب التي عرفت طريقها من كثرة ما دبت فيه، انطلقوا وما فكروا قط في يومهم، ولم يفكرون؟ فأيامهم جميعاً متشابهة ففي الثامنة صباحاً يدخلون، وفي الحادية عشرة يفطرون، وفي الثالثة ينصرفون، وكان الأمل الوحيد الذي يداعبهم في أثناء عملهم أن تتكرم عقارب الساعة الكبيرة المثبتة في الفناء الواسع الحجم المواجه للورش بالدوران السريع حتى تبلغ الثالثة لينصرفوا شاكرين. ولتستريح بعد ذلك ما شئت لها الراحة، فما أصبح دورانها يعنيهم بعد انفلاتهم من سجنهم، فقد كانوا ينظرون إلى ورشتهم نظرتهم إلى سجن بغيض.
وهكذا لا تخطيء سمة من سمات الصورة الحسية الفكهة؛ لا في الأولى؛ ولا سمة من سمات الصورة النفسية في الثانية. . . وإنك تلمح الآن هذه الجموع تنطلق في طريقها كالدواب. تلمح هذا القطيع يدب، لا يحدوه أمل، ولا تدفعه رغبة. ولكنها لقمة العيش تربطه إلى سجنه، وتكرار الطريق يقوده إلى مربضه في سأم بالغ وملال كئيب