ثم يريد المصور أن يرسم بلمسة سريعة صورة من السرقة أو الاستغلال الذي يناله الرؤساء لأنفسهم بواسطة العمال، فيبرزها كاملة في هذه الفقرات:
(ولمح أحدهم صديقه فناداه وسلم عليه، وقال له وهو يحاوره:
(- لم جئت اليوم؟ هل انتهيت من العمل في بيت المهندس؟
(- لا لم أنته بعد. ولكن جئت لآخذ غراء ومسامير!
(- هل انتهيت نجارة غرفة النوم؟
(- لا. ولم؟
(- لأنه أمرني أن أطليها له!
(- هنيئاً لك؟
(- ستحتسب لك أيام الجمع!
(- أتحسدني على شيء سبقتني في الحصول عليه؟
(- لا أحسدك ولا تحسدني. وهل يدفع لنا شيئاً من جيبه؟ بارك الله في الحكومة!)
فيبلغ بهذا الحوار القصير أن يرسم صورة كاملة لاستغلال مال الحكومة ووقتها، وأدواتها. وليس هذا فحسب. بل يرسم معه صورة للفساد النفسي والخلقي الذي يبثه هذا الاستغلال في نفوس المرءوسين من العمال وغير العمال
حتى إذا شاء أن يسخر من طريقة العمل في الدواوين، ومن طريقة الإشراف والتفتيش، ومن الرؤساء والمفتشين. . . كل ذلك في آن واحد. أختار هذه الصورة السريعة الجامعة لكل ما يريد. والتي هي نموذج لسائر ما يجري في بقية الأعمال وبقية الدواوين إن لم تكن بنصه فبروحه، وإن لم يكن بصورته فبنوعه:
(وخلع العمال ملابسهم النظيفة، ولبسوا ملابس العمل الزرقاء، واتجهوا إلى أماكن عملهم، ووقفوا يتحدثون ولا يعملون، وراح الرقيب يقوم بمهمة الاستطلاع. والرقيب العامل من العمال يجدد انتخابه كل يوم، ويوكل إليه مراقبة الطرق والمنافذ، فإن لمح المهندس أو المدير مقبلاً، أعطى إشارة الخطر، فتدب في الورشة الحياة
(وفي حوالي العاشرة لمح الرقيب المهندس مقبلاً يتهادى في حلته الحريرية البيضاء، وقد ثبت وردة حمراء في صدره، وكان يرفع يده بين الفينة والفينة ليسوى رباط رقبته الجميل،