أو ليرفع أطراف المنديل المتدلي من صدره. . . فصفر صفير الإنذار - وهو صفير طويل ممدود - فهمس من في الورشة:(ميمي. . . ميمي) - وهو ما اصطلحوا على إطلاقه على المهندس الأنيق - فأسرع كل إلى عمله، وأسرع أحدهم إلى الأزرار الكهربائية وضغطها، فدارت لآلات وارتفع عجيجها، وراحت المبارد ترتفع وتنخفض على قطع الحديد المثبتة في (المناجل) والمناشير تتحرك في توافق كأنما هي فرقة موسيقية تعزف لحناً. ودخل المهندس بقامته الفارعة. وملابسه الحريرية النظيفة يتبختر كغادة مدلة معجبة؛ وكان يتحاشى الاقتراب من الآلات أو العمال، حتى لا تتلوث ملابسه. فما تقول خطيبته التي سيقابلها عقب انتهاء العمل أن رأت بقعة زيت تشين لباسه، الذي تفنن في إعداده؟. وأجال بصره فيما حوله، فرأى حركة دائمة، فقرت عينه فاطمأن إلى أن العمل يسير على ما يروم. فانصرفت إلى مكتبه ليمضي به بقية يومه بين شرب القهوة، والمحادثات التليفونية، ومقابلة الأصحاب والأحباب
(ترك المهندس الورشة، فأسرع عمل إلى الأزرار الكهربائية وضغطها، فخرست تلك الآلات التي صدعتهم بصوتها بعض الوقت، وأستأنف العمال سمرهم، وراح بعضهم يبحثون عن مكان هادئ يستسلمون فيه للذيذ الرقاد)
وهكذا ترتسم تلك الصورة الحقيقية الهازلة لجو العمل في المصالح الحكومية الذي يشترك في خلقه الصغير من الموظفين والكبير!!
عشرات من هذه الصور الخاطفة تأخذها العين اللماحة، وتصورها الريشة السريعة. ولست أزعم أنها جميعاً في هذا المستوى البارع الذي ضربت منه الأمثال. فالمؤلف يظل موفقاً ما ظل يستخدم موهبته الأصلية: موهبة التصوير السريع باللمسات الخاطفة؛ وما ظل يدع الحادثة توحي بالمعنى، والحركة تدل على الانفعال. ولكنه يهبط وبجانبه التوفيق، حين يستخدم الوصف المجرد للتحليل النفسي؛ فليس هو موهوباً في التحليل. ولهذا تستحيل تلك الأداة في يده أداة معطلة لا تصور ملامح، ولا ترسم هيئات، ولا تبلغ في تشخيص النفسيات إلا أن تصفها وصفاً لا حياة فيه (ويضيق الفراغ هنا عن الاستشهاد)
ولحسن الحظ أنه لم يجنح إلى التحليل بالوصف إلا في قليل من هذه الصور. أما أغلبها فجنح فيه إلى التشخيص بالحادثة والتعبير بالحركة على النحو الذي ضربنا منه الأمثال