تنحية الكاتب لشخصه عما يكتب، وتسليطه ضوء العقل على ما يريد عرضه. ولهذا كان مظهرها هو الشعر التمثيلي. وأما الشعر الغنائي الشخصي فذلك نوع لم يزدهر إلا في القرن التاسع عشر تحت جناح الرومانتيكية، والكلاسيكية قسط واعتدال فلا إسراف في إحساس ولا مبالغة في عبارة ولا تصنع في أداء ولا شذوذ في أسلوب. وهي نتاج عقلي يخضع لأصول مرعية ويسير على مبادئ مقررة، وهي أصول ومبادئ قَّنن لها النقاد فقالوا في المسرح بالوحدات الثلاث ونادوا بفصل الأنواع فلا تجاور الفصول المحزنة فصول مضحكة في المسرحية الواحدة ولا يختلط نوع بنوع.
وجاءت الثورة الفرنسية فشتتت أفراداً وفجرت آمالا، وهاجر من هاجر وأقام من أقام وتجددت بفضلها مشاعر البشر. وأمعن الناس في مصائرهم. وولت الثورة نابليون الذي ملأ الدنيا وشغل الناس، حتى أثار في نفوس الشبيبة أنواعا لا تحصى من الطموح وقد أصبح مثلهم المحتذي. ومنذ الأزل كان لشهوة المجد سحرها العجيب. وتنكر القضاء لنابليون فانهار مجده وتحطمت بانهياره النفوس، فإذا بمرض اجتماعي ينتشر بين الناشئين هو المعروف (بمرض العصر) وما هو في الحقيقة إلا إحساس الفرد بعجزه عن الملاءمة بين قدرته وآماله، وبين شخصه ومجتمعه، وبين واقعه ومثله الأعلى، وتلك حالة نفسية تنشأ دائما عندما تجد أحداث أو تنهار شخصيات تدعو إلى أن يدب اليأس في الطموح. ولا أدل على صدق هذه الحقيقة من أن تجد الرومانتيكية التي ظهرت عندئذ، عامرة بالشكوى من الحياة، والإحساس إحساسا عميقا بجمال الأطلال ثم بصمت الطبيعة. ولكم يروعك عندئذ أن تستمع إلى شاتوبريان أحد أجداد الرومانتيكية الأوائل يفاضل بين الديانة اليونانية القديمة والديانة المسيحية، ويؤثر الأخيرة لأنها قد طردت من الطبيعة ما ملأها به الإغريق من ربات وحوريات وآلهة، لترد إليها ذلك الصمت الخالد الذي يعثر فيه الإنسان على الله عندما يعثر على نفسه. وهذه حالة تتطلع إليها النفس عندما تستشعر الحاجة إلى الاستجمام وترتد عن صخب الحياة وحركتها الدائمة وأهدافها المترامية مؤثرة التأمل الباطني على رقص الحوريات وأعياد الحياة. وعن هذه الحالة النفسية العامة صدرت الرومانتيكية التي تغلب عليها العاطفة والغناء الشخصي بالآلام والآمال غناء لا يخضع لقاعدة ولا يتقيد بأصل وهو أقرب إلى التشاؤم وشكوى الحياة منه إلى الرضى واطمئنان المصير