ونحن إذ ننتقل فنتصفح سجل الأدب العربي نرى الأصمعي - راوية البصرة - أحد من دُهُوا بعنت الأقربين، ومنوا بكيد الأكفاء. فقد نشأ بالبصرة مقلاَّ رقيق الحال إلا من ذكاء مفرط ونفس وثابة طموح.
وكان ما يلقاه من شيخه عطاء بن مصعب - وقد تفتحت على يديه أزاهير عبقريته - أمراً رائعا عظيما. بلغه يوماً أن الأصمعي اتخذ حلقة، واجتمعت إليه فيها جماعة، فغاظه ذلك. ولما فرغ من حلقته استتبع أصحابه فقال: مروا بنا إلى ظاهر البصرة!. . قال راوي الحديث: فخرجنا حتى مررنا بشيخ معه أعنز يرعاهن وعليه جبة صوف: فقال له: يا قريب. فقال: لبيك! قال: ما فعل ابنك الأصمعي؟ فقال: هو عندكم بالبصرة فقال: هذا أبو الأصمعي لئلا يقول هذا إنه من بني هاشم!!
ويذكر القاضي التنوخي في كتابه (الفرج بعد الشدة) قصة الأصمعي مع أحد البقالين على باب بيته بالبصرة، وما كان يعيره به من الفقر، وينعيه عليه من انصرافه عن طلب المجدى من شئون العيش، حتى قال له مرة: يا هذا اقبل وصيتي. أنت شاب فلا تضيع نفسك، واطلب معاشاً يعود عليك نفعه، وأعطني جميع ما عندك من الكتب أطرحها في هذا الدن وأصب عليه من الماء للعشرة أربعة، وأنبذه، وانظر ما يكون منه.
على أن ضائقة الأصمعي تفرجت بعد حين؛ وأقبلت الدنيا عليه حتى أوطأته بساط الرشيد، فاستفاضت هنالك شهرته، وأثرى من مال ومن جاه. وكان من أكبر همه يوم ذاك أن يلم بموطن صباه، فترفق في استئذان الرشيد حتى إذن له، وكتب إلى والي البصرة بإكرامه والتحفي به. . قال الأصمعي: فلما كان في اليوم الثالث تأملت أصاغر من جاءني، فإذا البقال وعليه عمامة وسخة، فقال: كيف أنت يا عبد الملك؟ فاستضحكت من حماقته وخطابه لي بما كان يخاطبني به الرشيد. فقلت: بخير، وقد قبلت وصيتك وجمعت ما عندي من كتب العلم، وطرحتها في الدن فخرج ما ترى. . .
على أن هذه الذكريات (الشقية) التي تربط الإنسان بموطنه الأول ليست مما يطيف بحياة كل نابغة قلقت في البلاد ركابه بل ربما كانوا يتخذون الرحلة عن الوطن الأثير الكريم - باباً إلى التقدم في الحياة، ووسيلة إلى تحقيق كرائم الغايات فيها: من إحراز مال وجاه، أو جمع معارف وعلوم، أو تقويم طبائع مستخذية وشحذ همم كليلة. وقد كان من مواطن