العجب عند القوم - ولا يزال - أن يروج أمر من لا ينفك حلس بيته، وأن يحرز معالي الأمور من لم تنهض به همته إلى التغرب في طلابها. فليس كل مغترب إذن طريد وطنه أو ضحية ظلم مواطنيه، وإنما قد يفارق وطنه وأهله من لا يزال يحن إلى سالف سعادته هنالك حنين النيب إلى أعطانها، وقد يبلغ إلحاح هذه الذكريات السعيدة على النفس حداً تفوق به شقي الذكريات وما تدفع إليه من رغبة التشفي وتذوق حلاوة الانتصار، مما ضربنا له الأمثال آنفا.
وكان طاهر به الحسين الخزاعي، قائد الخليفة المأمون والملقب بذي اليمينين، أحد من أضناهم هذا الشعور الأخير. . شعور الحنين إلى الوطن وتعلق النفس بذكريات سعيدة فيه - حتى لنغص عليه من سروره الحاضر وسعادته المستأنفة.
قال له بعض جلسائه يوما وقد بلغ من الجاه في دولة المأمون ما بلغ: ليهنك ما أدركته من هذه المنزلة التي لم يدركها أحد من نظرائك بخراسان. فأجاب طاهر: ليس يهنيني ذلك، لأني لا أرى عجائز (بوشنج) يتطلعن إليَّ من أعالي سطوحهن. .
وإنما حاكما. وممن اجتمع لهم شقي الذكريات وسعيدها، فحدا بهم إلى أوطانهم حاديان، وتمهد أمامهم نحوها سبيلان مهيمان - نبينا محمد عليه أفضل الصلوات. . ففي مكة نشأ وتربى ملحوظا بعناية من ربه، كريماً على نفسه وعلى قومه، يظله من قبيلته أرفع لواء ويكنه فيها أشرف بيت؛ وفي مكة أيضاً لقي الإعراضَ والأذى من قريش صنوفا. فيها لقب الصادق الأمين حقا وإنصافا، ثم وسم بالشاعر والكذاب بغياً وإسرافا.
فليس عجيباً بعد أن يكون حنينه إلى مكة قويا بليغاً يؤرثه شوق غلاب إلى عهود هنالك كريمة ومشاهد محببة أثيرة، وأن ينضاف إلى الحنين شعور آخر قوي بالرغبة في مجابهة هؤلاء القوم الذين أخرجوه من داره مجابهةً يزلزل بها عقائدهم الملتوية، ويزيل بها تلك الغشاوة التي رانت على أعينهم، فيعرفوا قدر دينهم في الأديان، ومنزلة رسولهم بين رسل الله المكرمين:(قيل ادخل الجنة، قال يا ليت قومي يعلمون بما غفر لي ربي وجعلني من المكرمين).
ومن علائم الشعور الأول ما كان من شأنه صلى الله عليه وسلم يوم قدم أصيل الخزاعي من مكة فقال له: يا أصيل، كيف تركت مكة؟ قال: تركتها وقد أجحش ثُمّامها وأمشر سلمُها