أن هؤلاء الناس ممن يرهبون الحقائق الفلسفية المرة. غير أن كل ما يعنيني من الأمر ويهمني هو أن أقف على آراء أولئك الذين وهبوا الذوق الحسن. ولقد سرني أن أظفر بمدحهم لحظيتي العجوز. إن مثلي كمثل ذلك المغني الروماني الذي أجاب على صخب الجماهير: إني أغني للنبلاء فقط، أو بمعنى آخر للهواة الذين يفهمون ويتذوقون).
يتبادر إلى ذهن السوقة أن ما يرونه قبيحاً في الحياة لا يليق أن يكون موضوعا للفنان. يودون لو يمنعوننا من إظهار ما يسوؤهم من الطبيعة أو يقذى أعينهم؛ وهذه غلطة شنيعة يغلطونها. إن ما قد يسمى عادة في الطبيعة يمكن أن يكون لدى الفن عامرا بالجمال. وفي الواقع نسمي قبيحاً كل ما كان مشوها أو مريضا أو يشعر بمرض، أو ما كان ضعيفاً أو مبتلى، أو ما كان منافيا للمألوف الذي هو إمارة وشرط من شروط الصحة والقوة. فالأحدب قبيح، والأعرج قبيح، والفقر في الأسمال البالية قبيح. وقبيح أيضاً روح الرجل الفاجر وسلوكه، والرجل الخبيث المجرم، والرجل الشاذ الذي يكون بلية على المجتمع، وقبيح أيضاً روح الذي يفتك بوالديه، وروح الخائن، وروح كل دنئ المطامع. ومن الصواب تسمية الناس أو الأشياء التي لا تتوقع منها سوى الشر بتلك المسميات الكريهة. ولكن دع فنانا مبرزا أو كاتباً نابها يتولى بفنه قبحا واحداً أو أكثر مما ذكر فسرعان ما يتحول في يديه؛ إذ ينقلب بلمسة من عصاه السحرية إلى جمال رائع. إن هذا إلا كيمياء، إنه السحر المبين!!
دع فيلا سكويز يصور سيباستيان، قزم فيليب الرابع، ملك إسبانيا، تراه يحبوه بتلك النظرة المؤثرة التي نقرأ فيها على الفور ما تنطوي عليه نفس هذا المخلوق التعس من الأسرار المؤلمة، ذلك المخلوق الذي ألجأته حاجته للعيش إلى أن ينزل عن كرامته الإنسانية فيصبح ألعوبة أو سخرة من المساخر الحية. وكلما زادت لذعة الألم في نفس المخلوق البائس زاد جمال عمل الفنان.
وليصور فرنسوا ميليه فلاحاً يتكئ على فعال فأسه ليستريح لحظة، رجلا بائساً أضناه التعب ولفحته الشمس، غبياً كالحيوان الأعجم الذي أذهلته الضربات فيلدم. وما هو إلا أن يظهر في تعبير هذا الشقي البائس ذلك الاستسلام السامي للألم الذي فرضه علينا القدر حتى يجعلنا نرى فيه الرمز العظيم للإنسانية كلها.