تنفصل ولا تتجزأ؛ والتي يموت الكائن الحي فيه إذا نحن فصلناها وجزأناها!
وتاريخ حياة (المدن) كتاريخ حياة (الأشخاص) لا ينفصل فيه النمو السياسي عن النمو العمراني عن النمو العقلي عن النمو الفني. إنما يسير هذا كله وحدة لا تتجزأ في المرحلة الواحدة، وتسير المراحل المتتالية متواصلة كالأمشاج، متفاعلة كالعناصر المختلفة في المزاج.
يجب أن تطالعني (دمشق) أو تطالعني (بغداد) بنية حية؛ تبدأ صغيرة، ثم تنمو وتنمو، ثم تتعاقب عليها الأحداث فتترك آثارها في هذه البنية الحية، التي لا تنفصل ذراتها لأنها لا تزال على قيد الحياة.
يجب أن يجتهد المؤلف في (إحياء) هذه المدينة، حتى تبرز لي شخصية متماسكة حية تعاطفني؛ وأعاطفها؛ وحتى أساير خطاها في الزمان بقلب جياش يطلع منها على ضمير منفعل، وحركة مثيرة؛ أو على حسن خامد وغفوة هامدة، أو على صراع مع الأحداث والأيام، تواجهه بقلب الكائن الحي، الذي يضطرب وينبض للأحداث والأيام.
فأين هذا كله من كتابي (دمشق) و (بغداد)؟
تبقى الموازنة بين الكتابين في دائرتهما المتواضعة! وكثيرون من الناس يشفقون من الموازنة بين الأحياء؛ وينصحون لي بالكف عن هذه الموازنات التي تثير الغيرة والخصومات!
وأنا لا أومن بهذه النصائح التي تنشأ من (تقاليد الصالونات) تلك التقاليد الناعمة الرقيقة، التي لا يمكن أن تبرأ من الجبن والنفاق. في الوقت الذي تبرأ من أعظم عناصر الحيوية، الحسم والحماسة!
كتاب (دمشق) أوسم واثمن من كتاب (بغداد) والتماسك بين مباحثه المتفرقة أدق وأعمق. ونفس المؤلف فيه أقوى وأطول. وقد عرف المؤلف حدود المجال الذي يضطرب فيه فلم يزج بنفسه في مباحث (كبيرة) لم يتهيأ لها في هذه الحدود.
مثال ذلك ما زج بنفسه فيه مؤلف كتاب (بغداد) من الحديث عن خصائص الشعر البغدادي. ذلك الموضوع الخطر الذي يحتاج الحديث عنه إلى فطرة موهوبة، وإلى بحث كذلك عميق. فلم يزد فيه على الملخصات المدرسية المعروفة. من ذلك قوله: