وبنشأة التفلسف تكونت الفلسفة، وأصبح في الجماعة الإنسانية نوعان من المعرفة: المعرفة الدينية، والمعرفة الفلسفية أو الإنسانية. وإذا كانت الأولى يدعى فيها العصمة، فالثانية للإنسان أن يصوب أو يخطئ فيها. وإذا كانت مبادئ الأولى محدودة لأنها وقف على الوحي، فالثانية قابلة للزيادة والنماء لأنها في متناول كل الأجيال الإنسانية. وإذا كان رجال الدين هم المحافظون في كل أمة بحكم موقفهم من عدم التصرف في معارف الدين، فالفلاسفة هم رجال الثورة الفكرية وأصحاب التطور في توجيه الإنسان. وإذا كان رجال الدين يضعفون من قيمة الإنسان واعتباره، وقد يلغون أثره في الحياة، ويردون كل أثر فيها إلى الله، لتتضاعف بذلك عظمة الإله، فالفلاسفة يشيدون بالإنسان وينسبون إليه أثراً ويسندون إليه فعلاً في تغيير الحياة نفسها.
والفيلسوف وإن كان رجل ثورة على التعاليم الدينية، فثورته في الواقع على التعاليم التي كونها الإنسان باسم الدين، والتي ربما قلب بها أوضاع الدين وحرف بها هدفه. والفيلسوف وإن رمى بالإلحاد فرميه به عادة من رجال الدين، وليس بلازم أن يكون منكراً للدين وإن أنكر تعاليم رجاله. ولكنه مع عدم إنكاره الدين لا يبلغ مبلغ رجل الدين في إلغاء وجود الإنسان بغيه إظهار عظمة الله.
ولأن التفلسف في بدايته كان خروجاً على تعاليم رجال الدين وعلى المألوف من المعارف المسيطرة على الجماعة الإنسانية عد الفيلسوف مناوئاً لرجل الدين وعدت الفلسفة عدوة للدين. وبمقدار ما في القضية الأولى من صدق بمقدار ما في الثانية من مبالغة. إذ الأديان في طبيعتها تنظر إلى أفراد الإنسان نظرة مساواة وتهدف إلى إسعادهم جميعاً، وكذلك الشأن في الفلسفة، وفقط طريق أحدهما قد يختلف عن طريق الآخر.
وكما لم تستطع الفلسفة أن تلغى الأديان كذلك هذه لم تستطع إلغاء الفلسفة، بل الفلسفة إن لم تنته إلى ما ينتهي إليه الدين، تعترف بحيز له لا تستطيع السير فيه إذا اقتحمته، والدين في وضعه الأصلي إذا لم يشجع التفكير الإنساني في دائرة ما يرسمه له يدع له مجالاً خاصاً به، لا يبدى - إذا أبدى - رأياً في ناحية من نواحيه إلا عن طريق الإجمال.
وما بين الفلاسفة ورجال الدين، فلأجل توجيه الإنسان. فالفلاسفة يرون أن رجال الدين لما