للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

بها فجأة كما قامت فجأة، وانتهت على أهون ما يكون كما ابتدأت بأهون ما يكون. ولو أن الشعب كان يضم جوانحه على ما تنادي به الثورة من المبادئ والأغراض، وما تهدف إليه من المطامح والغايات، لما أفلحت الدسيسة في خذلانه، ولا وجدت الخيانة مكاناً بين صفوفه، ولما سلم في الجولة الأولى وجعلها بداية النهاية.

فما نحسب أن الأفغاني كان يخفى عليه إدراك هذه الحقيقة، ولكنه كان ينظر إلى طغيان الاستعمار على الشرق وإلى المطامع التي أنشبت أظفارها بعنقه، فكان يفزع لسوء المغبة، ويجزع من التراخي أمام الكارثة، ويصرخ بدعوته إلى رأب الصدع وحشد الجهود وفي الأمل بقية. وإن من الظلم للتاريخ وللرجل أن نتهمه بالفشل وأن نصف مسعاه بالخيبة، فحسبه نجاحاً أنه رسم الطريق، وهيأ الأذهان، وأقام فكرته عقيدة كان لها أكبر الأثر في توجيه الشرق الإسلامي إلى مجالي النهوض والتجمع، وإن ما وصلنا إليه من وضع في الوحدة لثمرة من ثمرات ذلك الرجل العظيم.

لقد أيقظت دعوة الأفغاني الشرق، كما أفزعت الغرب، وعلى الرغم من أن الرجل كان يبذر آراءه في تربة غير صالحة من طول ما تراكم عليها من صدأ الجهل واستبداد الظلم ويأس الخنوع، فقد استطاع لصدق غيرته وشدة نخوته وقوة شخصيته أن يصل بها إلى قرارة النفوس والقلوب، وأن يحشد لها جهود الغيورين، وأن يقيم لها دعامة قوية من التلاميذ والمريدين، وبهذا أصبحت تياراً فكرياً مضاداً لأطماع الاستعمار الأوروبي من جهة ولمفاسد الاستبداد العثماني من جهة أخرى، ولم يكن الاستعمار الأوروبي الطامع بجهل خطر هذه الدعوة عليه إذا ما نجحت، ولم تكن تركيا دولة الخلافة والرئاسة تنظر إليها بعين الشك والريبة، بل كانت تراها فكرة هدامة، ودعوة إلى التمرد على (الإسلامية) التي تمثلها الخلافة، فكان من الطبيعي أن يكون الأفغاني ومريدوه والمتشيعون له هدفاً للمناهضة والتنديد والاتهام. وكان أول تهمة ألقيت على الأفغاني وأتباعه في دعوتهم أنهم دعاة عصبية وتعصب. وقيل يوم ذاك إنهم يريدون النهوض بالمسلمين على حساب الطوائف الأخرى التي تقطن البلاد الإسلامية، وارتفعت صيحات كثيرة تندد بالتعصب وبالمسلمين (الجامدين) الذين يدعون إلى العصبية. ارتفعت هذه الصيحات من جانب الغرب وفي وسط الشرق الإسلامي نفسه، وكان لها أثر ملموس في مناهضة الوحدة على الوضع الذي كان

<<  <  ج:
ص:  >  >>