الأعماق:(لا يدري إنسان متى يحين الأجل. فلا يجوز بعد اليوم أن أؤخر بناء مقبرتي. أو فما فائدة المال إذاً؟!) وتولت الحيرة صدراً كبيراً فجعل يقول لصاحبه: (قال إخناتون إن الرب هو آتون. وقال جار محب إنه آمون. وهناك قوم يعبدون رع. فلماذا يتركنا الرب في شقاق؟) ولم أواصل الاستطلاع طويلاً في هذا الحفل الفرعوني الجليل إذ سرعان ما ادركني الملل. فتحولت عنه ووجدت نفسي مرة أخرى في الدنيا الواسعة. ومرت أمام ناظري مشاهد كثيرة من الأرض والسماء، لمست حقائقها جهرة، ونفذت إلى صميمها، حتى وقع البصر على جنين يتكون في رحم، فرأيته يكتسي لحماً وعظماً. وشهدت مولده. وجرى البصر معه في المستقبل فرآه طفلاً وصبياً وغلاماً وشاباً وكهلاً وشيخاً وميتاً. وشاهد ما أعتور من حادثات وحالات سرور وحزن ورضا وغضب وأمل ويأس وصحة ومرض وحب وملل. رأى ذلك جميعه في دقيقة من الزمان. حتى كاد يختلط في أذني بكاء الميلاد وشهقة الموت! وغلبتني على أمري رغبة جامحة في اللعب فسايرت حيوات أفراد كثيرين من الميلاد إلى الممات. واستلذذت كثيراً وقوع الحالات المتنافرة لا يكاد يفصل بينها زمن! فهذا وجه يضحك ويقطب ثم يضحك ويقطب عشرات المرات في جزء من الثانية! وهذه امرأة تتيه حسناً وتعشق وتتزوج وتحبل وتلد وتهرم وتقبح وتسمج في لحظة من الزمان! ووفاء وخيانة لا يفصل بينهما زمن. هذا وغيره مما لا يحيط به حصر جعل الحياة مهزلة. فلو أن ميتاً يضحك لأغرقت في الضحك. وبدا لي كأنه لا حقيقة في العالم إلا التغير! ورغبت نفسي عن مطالعة الأفراد وحيواتهم المجنونة فغابوا عن بصري. ورنوت إليهم من بعيد جمعاً غفيراً لا يحده شيء. تضاءلت الحجوم وطمست المعالم وإنعدمت الفوارق. فصاروا كتلة واحدة. ساكنة صامتة. لا حياة فيها ولا حركة. رحت ألقي البصر في دهشة وحيرة. حتى ألفت المنظر. فتكشف لي عن جانب جديد كان من قبل خافياً. رأيت ذاك الظلام الساكن يشع نوراً شاملاً؛ فإن الأنوار الخافتة المتهافتة التي تخفق في كل مخ - على حدة - ضعيفة خابية، اتصلت في المجموع الملتحم المتماسك ولاحت نوراً قوياً باهراً. رأيت في لمعتها حقاً باهراً وخيراً صافياً وجمالاً متألقاً فازددت دهشة وحيرة. رباه لشد ما تعاني الروح وتتعذب ولكنها تبدع وتخلق على رغم كل شيء. رباه لقد رأى توتي أموراً جليلة وليرين أموراً أجل وأخطر. وأيقنت أن ذلك النور الذي بهرني إن هو إلا نقطة من