ونظراً لخطر الموضوع وقيمته في الدعوة الإسلامية والدينية الصحيحة عامة سأضطر إلى مناقشة هذه الفكرة التي صارت زعماً عاماً انتقل إلى المسلمين الذين أساس دينهم (بل أساس الدين الصحيح كله) العقل؛ لأنني أعتقد أن المسلمين الآن بحاجة إلى أن يعلموا أن قضية الإيمان بالله الواحد كما استعرضها ودعا إليها القرآن ليست قضية (وجدانية) تأخذ من المجهول للنفس أكثر مما تأخذ من المعلوم لها، بل هي في أصلها ومنبثقها الأول تأخذ من (المعلومات) ويقينات الحس والبداهة والحكم العقلي أكثر مما تأخذ من أي منطقة أخرى من مناطق النفس البشرية. . .
فليس الموطن الأول لهذه العقيدة هو الوجدان، منطقة الانفعال والاستسلام أو الثورة، بل موطنها هو موطن ذلك (البرق) الذهني أو العقلي الذي ينتج (حكماً) يرسله إلى الوجدان فينفعل له ويتقبله (ويعقده) في طويته ويستسلم له ويسير حياته على مقتضاه.
هذا البرق الذي ينتج (الحكم) يستمد حيثيات أحكامه من انطباعات الصور الثابتة للكون في النفس ومن الانفعالات الداخلية بهذه الصور. والذي أعلمه من علم النفس أن أول (برق) يبرق في النفس وينطبع فيها هو حقيقة (السببية) التي تفجأ الطفل ويتحرك لها فمه حركة (منعكسة) آلية عندما تلقمه أمه ثديها، فيجد أثراً واضحاً لذلك التحريك تنفعل له أعصاب الجوع والشبع.
وكذلك عندما يصل إلى عينه أو أذنه أول شعاع ضوئي أو أول صوت فيجد له أثراً في حساسية بصره أو سمعه، ثم لا تلبث الآثار المطردة (الأسباب) أن تتلاحق على مجمع حواسه حتى تنتج طائفة من الأحكام المطردة المبنية على الانفعالات المطردة التي يجدها في حواسه وفيما وراءها.
وهذا ما يقرره القرآن نفسه بقوله:(والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة لعلكم تشكرون) فعندما يصل الناشئ إلى ترك مرحلة ذهول الطفولة وإلى إدراك الكون كله كوحدة، لا يتجه بانفعال وجداني إلى السبب الأكبر للكون لأن ذلك الوجدان لم يوجد بعد، وإنما يتجه إليه بحكمه الذهني الذي يركب قضية ذهنية منطقية في خفاء وبدون ألفاظ، يحكم بها بأن لهذا الكون سبباً وقدرة ومشيئة تدبره. . . وهي التي أدخلت الإنسان إلى الدنيا العجيبة وتخرجه منها. ولن ينفعل لهذا وجدانه (بالدين)