إلا إذا صح لديه هذا الحكم. فإن لم يصح لديه أن لهذا الكون عقلاً يدبره فلن ينفعل وجدانه لعقيدة دينية إلا تحت تأثير الخوف والقصور والتهيب أمام المجهول. وليست هذه مواقف الإيمان الصحيح المستنير الثابت الذي لا يتزعزع، وإنما هي مواقف الإيمان الأعمى المقلقل الحائر المستعد للتقلب، كما هو الحال في أكثر الذين لا يأخذون الدين بالفكر عند ابتداء صحوهم من ذهول الطفولة. فالعقل أو الحكم أو (الذهن) يا صديقي قطب، هو صاحب هذا الموضع الأول من النفس، ينتج لها تلك النتيجة الأولية التي تجعلها تنفعل بوجدانها انفعال الإيمان. وهو الجزء (المتبلور) في جميع النفوس - والوجدان جزء مائع - وهو الحكم الذي يكاد يكون من عالم الأرقام التي تنتج نتائج واحدة بقوانينها الواحدة.
ولن يضيره أن يكون مختلفاً في الناس اختلافاً ما. فكذلك الوجدان مختلف.
ونحن في سبيل البحث عن حجة لله على الناس جميعاً. ولن تكون هذه الحجة في أغلب الأمر إلا عن طريق العقل والذهن الدقيق الذي يحاكمنا الله إليه دائماً في الحياة وفي القرآن، ويردد اسمه دائماً؛ ويلومنا ويقر عنا بأننا لا نفكر ولا نعقل ولا نتدبر ولا نتذكر ولا نتخذ أسباب الوقاية كما يوحيها العقل.
نعم إن الموطن النهائي للعقيدة الحارة هو الضمير والوجدان، ولكن بعد أن تمر من العقل أولاً ويحكم بوجوب سكناها في الوجدان لتستمد من حرارته قوة الاندفاع والعمل للدين.
وقد كان الوثنيون الذين أنزل إليهم القرآن يعتقدون عقيدة في (وجدانهم) ويتعصبون لها ويصدرون عنها في حياتهم، لأن أذهانهم كانت تحكم بصحتها. فبماذا زعزعها القرآن في وجدانهم وضميرهم؟ أليس بالمحاكمة العقلية التي كشفت عن عقولهم ضباب الوثنية القديم، وأدركوا بها الحق الأول بالذهن والحكم، ثم أخلوا وجداناتهم من العقيدة القديمة وأحلوا محلها العقيدة الجديدة؟
والوثنيات تجد في منطق الوجدان وحده مدداً متصلاً لها بالانطلاق وراء الرموز والتهاويل والإثارات الفنية التي هي باب الوجدان. . . وقد افتخر (طاغور) واحتج للوثنية بأنها مجال طيب لرقي الفنون. . . ولا شك أن هذا احتجاج طفلي وجداني لا يتصل بسبب كريم بالحق والعقل والكرامة الإنسانية والمصلحة الاجتماعية. فالقول بأن منطقة الدين هي الوجدان وحده قول غير إسلامي. أخذه المسلمون المحدثون عن المفكرين غير المسلمين