الذين لم يعرفوا الأساس الأول للإسلام والدين عامة، والذين وجدوا في أديانهم أسساً يأباها العقل والمنطق، ووجدوا الدين في حد ذاته كفاية نفسية لابد منها، فأرادوا أن يجمعوا بين الدين والعقل، فزعموا أن لكل منهما منطقة قد يناقض ما في إحداهما ما في الأخرى ولا ضير! أما الإسلام فأساسه أن إله القرآن هو الإله الذي وصفته الطبيعة ووجهت العقل إليه؛ واعتمدت في هذا التوجيه على المحاكمات العقلية كأساس أول وعلى المحاكمات الوجدانية المبنية على هذا الأساس، وقد استخدم القرآن في سبيل ذلك كله البيان المشرق الجميل البارع المعجز في تعبيره وأسلوبه.
ولم يقتصر خطابه على طائفة واحدة معينة هم طائفة الذين ارتفعوا عن المستوى العام للناس واحتكت عقولهم بما وراء سطح الحياة وما وراء البداهة والحس من عوالم الفروض والصور الطليقة من قيود الحياة الظاهرة، بل خاطب الناس بالقدر المشترك بينهم جميعاً وخاطب هذه الطائفة الممتازة في بعض معارضه كما خاطب المبتدئين القاصرين في البعض الآخر.
والقرآن يفرض الفكر ميزاناً قائماً بذاته مستقلاً عن الإنسان ثم يعجبه مما يراه في الوجود، كأنه زائر غريب عن الحياة دخل إليها من عالم آخر وهو بكل وعيه، ولا شك أن الفكر بجميع قواه حينما يدخل إلى الوجود كأنه غريب عنه يعجب غاية العجب من بدائعه ويحكم الحكم الجازم بأنه لبارئ واحد. وليس هنا مجال تفصيل هذا، وقد سبق أن عالجناه في بعض البحوث.
فالموقف الأول من الكون والإيمان بربه الواحد، موقف (جزم) بالذهن والحكم العقلي. إذ أننا نشعر ونحس أننا واقفون إزاء (معلومات) تنتج العلم والحكم الضروري البديهي والمركب.
وهو موقف ديني سابق على مجيء النبوات والرسالات، لأنها تعتمد عليه في التدليل على قضاياها والتحاكم إليه. فالدين عقلي طبيعي في الإيمان بأصله الأول وهو الله الواحد.
ولقد وجدنا كل جماعة دينية تؤمن بما عندها بوجدانها. فهل لهذا وزن إلا عندما يدركون شاكلة الحق الذي عند الله والذي يوحي به الكون؟ وهل يدرك الحق إلا بقوة (الحكم) التي هي موضع الحساسية بالعدالة والقوانين الطبيعية التي استمددنا منها حكمنا، والتي لا تنظر