والقرآن لم يعن بأن يرد على منكري وجود الله. وكأنه لم يفرض وجودهم. أو كأنه نظر إليهم على أنهم خارجون عن نطاق العقل والبداهة، ولذلك لم يحاجهم ولم يوجه إليهم قولاً يشعر بأن لهم وزناً. وإنما وجه حديثه الأكثر إلى المشركين مع الله آلهة أخرى، والذين من فرط شعورهم بالألوهية استكثروا منها. . .
وخلعوا صفاتها على كثير من المخلوقات، فهؤلاء لديهم الإيمان الوجداني ولكنه إيمان مدخول منكوس يحتاج في تعديله ولإقامته في نصابه الطبيعي إلى منطق عقلي يستعرض الكون ويستقرئه ويستنتج منه أنه لإله واحد.
فالحديث مع هؤلاء المشركين لا يستلزم إلا الإيقاظ إلى الكون وأعاجيبه الموحية أنه من صنعة يد واحدة. . وهذا ما فعله القرآن. أما الذين التمسوا وراء حديث الإيمان الفطري مناطق يتحدثون فيها عن ذات الله وصفاته والكون ومبدأ وجوده وعلاقته بالله وصفاته، إلى آخر مباحث علم الكلام والفلسفة فهؤلاء لا يدعون أنهم يؤسسون عقيدة للجمهور بكلامهم، وإنما يريدون أن يصلوا بين هذا الكون المادي العجيب وبين ما قبله وبعده. وموقفهم هذا طبيعي، هو نتيجة للعجب الذي يرونه في هذا الكون، ونتيجة لشعورهم بأن عقلهم وحكمهم يريد أن يتصل بألغاز الحياة وما قبلها وما بعدها. فإنهم يشعرون أنهم غرباء، في هذا الكون المادي ذي القوى الموزونة والطلعة الجبارة المثيرة للفكر أيما ثورة. ولابد للغريب أن يبحث ويتقصى ويتعرف المكان الذي دخل إليه ويتعرف إلى صاحبه ويبحث عن شئونه حيثما ساعدت الوسائل.
غير أنهم يجب لكي يضمنوا الحياة العملية في الأرض والألفة العقلية ألا يشردوا ويحملوا عقولهم فوق ما تطيق، ولا ينسوا أن الإله الحكيم الذي وضعهم هكذا قاصرين عن إدراك كثير من الأمور، وعن إدراك المبدأ والمنتهى إدراكاً كما يشتهون ويتطلعون، إنما فعل ذلك لحكمة بالغة هو يعلمها، فيجب أن يلتزموا حدود (الضيافة) المؤقتة في هذه الحياة. ولا شك يكون لهذا الالتزام ما بعده من التناسق بين الفكر والعمل والألفة العقلية. وما كان للقرآن أن يكون على أسلوب تفكيرهم الخاص وهو قد جاء ميسر الذكر للناس جميعاً.
ولكنه مكن هؤلاء العقليين والمتفلسفين أن يؤلفوا من معانيه التي تحت (سطحه التعبيري)