لقد أذاب قلبه في رسالته هذه يناجيني فيها بأعذب الألفاظ. ثم عادت تحدق فيَّ كأنما استقر خاطرها على رأي فجأة وقالت: إنني أعرف بالطبع أنها رسالة غرام. ولطالما تمنيت أن أطلع على ما فيها فأعرف كل كلمة حبيبة كتبها إلىَّ.
وإنك لتعلمين أنني أمية لا أقرأ.
وليس في القرية من أثق به فأطلب منه أن يقرأها لي؛ والنساء يحدقن علىَّ لأن زين الشباب أضحى أسير حبي؛ والرجال يمقتونني لأنني لم أرض بأحد منهم زوجاً؛ إذ كل ما يبغونه من زواجي لو تم ذلك لا يعدو الحقل. ذلك احتفظت برسالتي فلم يطلع عليها أحد. على أنني غالباً ما أخرجها من الصندوق ثم أعدو بالفكر في مجالي الخيال أحاول أن أتصور ما يعبر عنه من العواطف ويزدان به من المعاني، وأنه ليسعدني أن تقرئيها أنت عليَّ إذا سمحت بذلك.
فأخذت الرسالة، وقد كان واضحاً أن كاتبها ليس على شيء من العلم، ثم أخذت أقرأها لنفسي قبل أن أتلوها عليها. ولقد جلست إلى جانبي، كأنما تلوذ بي مما تحسه وتفيض به من تلك العاطفة الجموح. كانت عيناها الظامئتان المترقبتان لا تتحولان عني.
ولقد قرأت رسالتها مرة ثانية وثالثة، وقد أفزعني أن أجدني أرتعش، وأخذني دوار حاد، إذ لا بد أن يكون الرجل ثملا حين أنشأ هذه الرسالة؛ فلا يمكن لمخلوق بغير الخمر أن يثور في نفسه كل هذا الحقد وكل هذه القسوة مما لا يمكن تصوره في حنايا إنسان. كان ما في الرسالة سخرية من هذه البلهاء الدميمة التي صدقته في تظاهره بالحب، ولم تعجز منشئها دقة الوصف وسعة العلم بما يزري بمارتا ويحزنها، ولم يفته مظهر من دمامتها يتهكم به ويسخر منه. كان يسخر من أهداب عينيها كأنما هي شعرات خنزير، ومن جسدها كأنما هو كتلة واحدة من العظم، ومن فمها الواسع كأنه فم ضفدعة أو أوسع وابشع. وحين ينتهي من وصفه اللاذع لمارتا وتهكمه بها يتحدث مزهواً عن فتاته الأميركية الحسناء التي تجلس إلى جانبه وهو يكتب رسالته. هذه الفتاة التي يقول عنها إنها مشرقة كالزهر، منيرة كالبدر، تبتسم فتبدو كزهرة الربيع.
ثم يروي لمارتا أنه حدّث فتاته بحديها، حدثها عن امرأة بلهاء جُنَّت به ووهبته كل مالها لكيما يبلغ هذا البلد السعيد الذي يعج بالنساء الفاتنات.