ثم غلبها الصمت فراحت تحلم. وقد فاضت عيناها بالدمع غبطة. واستسلمت لأمانيها وأحلامها، فلم تفطن إليَّ وأنا أنسل من جانبها فزعة كأنما ارتكب إثما.
منذ ذلك اليوم حرصت على ألا أمر بحقل مارتا كلما امتطيت جوادي خيفة أن تبصر بي فتطلب إلى أن أقرأ الرسالة مرة أخرى فأتلوها على غير ما تلوتها أول مرة، فيبعث هذا في نفسها الشك.
على أنني عرفت مما تثرثر به عجائز القرية أن مارتا تقصد المدرسة مساء كل يوم فتمكث فيها ساعة أو تزيد، تتلقى على مدرسيها دروساً في القراءة. ولشدة ما كان نساء القرية يضحكن وهن يلغطن بحديث مارتا ويقلن إنها تتعلم القراءة. . . تتعلم القراءة في سنها هذه! ترى أكان هذا لأنها ستصبح عما قريب سيدة؟ لقد ابتاعت كتاباً للأطفال وإنها لتجلس على مقعد أما بيتها كل يوم ممسكة به وهي تردد حروفاً منه: ألف - باء - جيم - قاف - طاء - هاء - قطه. . . وإن الناس لا يقوون على كظم ضحكهم مما يرون، ثم يسترسلن في ضحكهن ساخرات. أما أنا فقد وجدت في الأمر غير ما وجدنه. لقد كان فيه ما يبعث على البكاء رثا لها وفزعا مما ينتظرها.
ولقد خرجت أتنزه ذات يوم فضللت سبيلي. ثم ألفيتني بعد حين في غاب خلف حقل مارتا. وكان الوقت خريفاً والهواء البارد يهب من البحر قارساً، فلذت بالأشجار محتمية بها، ثم رحت أزحف بين أفنانها، فبلغ أذني بغتة صوت أجش قوي النبرات يردد ألفاظاً بجد وقوة: بيت - حقل - كلب - بقرة. . . وما شاكل هذه الكلمات البسيطة الرقيقة التي كانت برغم ذلك تمهد السبيل الذي سيقود مارتا يوم من النعيم إلى الجحيم.
وكان الصوت لا يزال يردد. . . حقل. . . الله. . .
الله! أجل. . . إنه هو وحدة القادر على أن يبعث إلى مارتا بكسف من السماء يودي بها قبل أن تجد نفسها قادرة على أن تقرأ الرسالة. . . الرسالة التي تفيض بالحقد والمقت والسخرية. . . الرسالة القاتلة. . . إنه القادر على أن يرحمها فيعمى عينيها الظامئتين المترقبتين قبل أن تستطيعا قراءة حرف.
وكانت ليلة. . . أرخت فيها يد الخريف سدول الوحشة والكآبة على الكون ودوّت فيها