وللقراء تلك الشواهد التي سلفت، محيلا إياهم على استعراض القرآن. ليتبينوا أن (التصوير الفني) أداة واحدة من أدوات التعبير الكثيرة، وأن القرآن يحتفظ بروحه الفذ وجميع خصائصه الإعجازية في كل هذه الأدوات. . .
- ٢ -
أنا ما خشيت على القرآن من إدراك (سر الإعجاز في تعبيره) كما ظن الأستاذ سيد، وإنما بينت أننا لو ربطنا بين سر الإعجاز وبين التصوير الفني وحده نكون قد سوينا بين تعبير القرآن وبين غيره من مواريث أرباب البيان الرفيع في كل لغة إذ أننا نجد في مواريثهم استخدام التصوير الفني للتعبير عن (المعاني الذهنية والحالات النفسية والحادث المحسوس والمشهد المنظور. . . الخ) ومع ذلك لا نجد في بيانهم هذا اللون المتفرد ولا نجد في نفوسنا هذه الاستجابة المسحورة لتخييلهم وتصويرهم كما نجدها حينما نتلو القرآن.
فأكرر للمرة الثانية أن المعجز من أمور الحياة ما لا يمكن الوصول إلى سره واستخدامه، وكل أدوات التعبير التي أشرنا إليها قد استخدمها البلغاء. ولكن شتان بين الروح الخلفي الذي يترقرق في بيان القرآن ويشع من (هياكله) البيانية في السطور وما بينها وبين الهياكل البيانية البشرية الجميلة. . . شتان بين ما يمكن إدراكه بالمقاييس والمسافات، وبين أسرار ذلك العالم الأعلى الطليق الذي تنزل منه في القرآن روح متفرد لا يستطاع بحدود وأربطة. فلا يصح أن نربط بين سر الإعجاز وبين أي أداة من تلك الأدوات. إن الكون صنع الله والقرآن كلام الله، وأسرار الإعجاز في كلامه كأسرار الإعجاز في صنعه، نستطيع أن نصف آثارها في نفوسنا وعجبنا منها. ونستطيع أن نهتدي فيها إلى معالم للجمال تقاس، وعجائب للبلاغة تجلّي ولكنا لا نستطيع أن نقول: إنها موضع سر الإعجاز في تعبيره.
- ٣ -
كل ما في القرآن من (منطق) الوجدان في إثبات عقيدة التوحيد أنه ساق القضايا العقلية بتعبير جميل أخَّاذ حرك به الوجدان والمشاعر مع تحريك الذهن والحكم لصلب كل قضية، ولم يسقها بأسلوب جاف كأسلوب المناطقة الرياضيين الذي تتزاحم فيه المعاني في ألفاظ