مناقشتها في مقالي السابق كظاهرة لمذهب كلامي فشا الحديث به في هذا العصر الذي اتصل فيه المسلمون بغيرهم من الذين وجدوا أصول دينهم لا تستقيم مع الفكر والحكم العقلي فالتمسوا العقيدة عن سبيل الوجدان وحده
ومع أن هذا النص من كلام المؤلف يكفي لأن يسلكه مع القائلين بأن منطقة العقيدة هي الوجدان وحده، فإنني لم أغفل النظر إلى ما قاله قبيل هذا النص مما يستفاد منه أنه لا يخرج الذهن إخراجا كلياً من منطقة العقيدة.
ولذلك لم أناقش كلامه مناقشة حرفية ولكني ناقشت الفكرة التي تشيع في جو الفصل كله. ولْنُنْه هذا الجدل بالمثال فإنه ابلغ في الحجة وأروح للنفس. قلنا إن مسألة المسائل التي دار عليها أكثر جدل القرآن هي عقيدة التوحيد. وأنسب الآيات التي تناولت هذا الموضوع هي آيات سورة الأنبياء وقد ساقها المؤلف كدليل على ما ذهب إليه فلنقرأها معاً:
(أم اتّخَذُوا آلهة من الأرض هم يُنْشِروُن. لا ((يَنْشُروُن) كما ضبطها المؤلف. فليضمها إلى ما نبهه إليه فضيلة الشيخ السبكي). لو كان فيهما آلهةٌ إلا الله لفسدتا، فسبحان الله رب العرش عما يصفون! لا يُسْأَلُ عمَّا يَفْعلُ وهم يُسألون. أم اتخذوا من دونه آلهة. . . قل هاتوا برهانكم! هذا ذِكْرُ مَنْ مَعي وذِكْرُ من قَبْلي، بل أكثرُهم لا يعلمون الحق فهم معرضون) فهل ترى هذه الآيات تركت حجة (ذهنية) يمكن إيرادها للكر على مزاعم القوم ثم لم تفعل؟ (أم اتخذوا آلهة من الأرض هم يُنْشِرون) فالإله هو وحده الذي يخلق ويحي ويُنْشِرُ الخلائق من الأرض. فهذا مقطع من مقاطع الاستدلال بكلمة واحدة يدور بها الذهن في استعراض سريع للأرض وكائناتها للبحث عن حيٍّ مخلوق واحد لغير الله فلا يجد. وإنه لَلدَّليل الاستقرائي بعينه! ذلك الذي بني عليه (بيكون) الفلسفة الاستقرائية الحديثة. . وإنه لَلدَّليل المفضل عند المربين وعلماء النفس.
(لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا) وهذا مقطع آخر من مقاطع الاستدلال في كلمة واحدة أيضاً. . وإنه للدليل التطبيقي بعينه! أحد ضروب الأدلة الكبرى، يطبق فيه العقل في ظروفه ما يدركه من لوازم تعدد الرياسات وفساد الأمور إذا تولتها أيد متعددة سيكون بينها بالطبع ما يكون بين المتعددين ولا يمنع خلافهم وتنافسهم وتحاسدهم أنهم آلهة في طباع مختلفة عن الآدميين. فإن التصور البشري لا يستطيع أن يجرد الآلهة من صفات الناس