للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

النهضة، فساقاه متخاذلتان، تميدان من تحته، فإذا ما صعدت عيناك فيه قليلاً وجدت أصلب، والأضالع بارزة من تحت الجلد، والصدر يتمدد وينهد، والوجه يواجه السماء، والذراعين ممدودتين كمن يحاول أن ينضي عنه خموله. أما موضوع هذا التمثال فيلخص في التخلص من حالة الركود والخمود إلى حالة النشاط في الإنسان الذي يتحفز للعمل.

وفضلا عن ذلك فإن تلك الحركة البطيئة التي تدل على الاستيقاظ والنهوض لتظهر أروع مما هي عليه عندما يدرك المرء مغزاها. فهي تمثل - كما يدل على ذلك أسم القطعة - أول خفقة من الإدراك والتمييز في إنسانية لا زالت في مدارجها الأولى وأول انتصار للعقل على وحشية العصور السابقة للتاريخ.

ثم درست بعد ذلك تمثال يوحنا المعمدان على الوتيرة السابقة، فرأيت أن انسجام هذا الجسم أدى إلى تطور من حالة إلى حالة أخرى كما قال رودان. فأولا يتكئ الجسم بكل ثقله على القدم اليسرى التي تضغط على الأرض بكل قوتها. ويبدو كأنه يتذبذب في ذلك الوضع هنيهة بينما تنظر العينان صوب اليمن. وبعد ذلك ترى الجسم كله يتجه في هذا الاتجاه ثم تخطو الرجل اليمنى وترتكز قدمها على الأرض. وفي تلك اللحظة يظهر الكتف الأيسر المرتفع كما لو كان يلقي بثقل الجسم إلى هذا الوضع الجديد كيما يعين القدم اليسرى الخلفية على الخطو إلى الأمام. والآن، لم يخرج علم الفنان عن أنه يضع تلك الحقائق نصب عين الرأي على النحو الذي ذكرته حتى يكون من تعاقبها وتتابعها ما يشعر بالحركة.

وفضلا عن هذا أيضاً فإن لحركة (يوحنا المعمدان) دلالة روحية، كتلك التي لتمثال (العصر الحديدي). فالفني يتحرك حركة آلية كلها جلال ووقار حتى لتتوهم أنك تسمع وقع أقدامه مثلما تتوهم ذلك عندما تشاهد تمثال (القائد) تحس منه كأن قوة خفية كامنة تهيمن عليه وتسيره. وعلى هذا نرى أنه بينما تبدو لنا حركة المشي عادية صرفه نراها هنا جليلة لأنها في سبيل رسالة مقدمة. وهنا سألني رودان فجأة:

- (هل سبق لك أن عاينت بإمعان صوراً فوتوغرافية لأشخاص تمشي؟). ولما أجبته بالإيجاب قال (حسن. ماذا لاحظت عليها).

- (لاحظت أنها ثابتة في أماكنها لا تتقدم. وتبدو على العموم كأنها ترتكز على ساق واحدة، في غير ما حراك، أو أنها تحجل على قدم واحدة).

<<  <  ج:
ص:  >  >>