ومن المعلوم أن (الاستعمار) لم يكن من الحوادث العارضة في تاريخ فرنسا. . . بل أن تاريخ الاستعمار هناك طويل وطويل جداً؛ حتى أن بدء الاستعمار الفرنسي للبلاد العربية نفسها يعود إلى أكثر من قرن. فإن فرنسا بدأت حملتها على الجزائر سنة ١٨٣٠ وقد مضى على ذلك التاريخ قرن كامل مع عقد من السنين. . . غيرت فرنسا (نظام حكمها) - خلال هذه المدة أربعة مرات بل خمساً، انتقلت من الملكية إلى الجمهورية، فالإمبراطورية، ثم عادت إلى الجمهورية. والآن أخذت تجرب شكلاً جديداً من نظام الحكم. . . مع هذا لم تنحرف عن سلوكها الاستعماري طوال هذه المدة وخلال هذه النظم المختلفة. فإنها أتمت استعمارها للجزائر بين شتى الانقلابات السياسية، واستولت على تونس سنة ٨٨٢، وبسطت حمايتها على مراكش سنة ١٩١١، واستولت على سورية، وأتمت استعمارها للمغرب الأقصى بعد الحرب العالمية. . . وقد توالى خلال هذه المدة الطويلة عدة أجيال، ونشأ وتنازع في غضونها عشرات الأحزاب، وتولى الأمر فيها عشرات وعشرات من الحكومات المتضارية النزعات. . . ومع كل هذا، لقد ظل (العمل الاستعماري) هو هو، دون أن يتوقف أو يتغير من جراء تبدل نظم الحكم، أو تعاقب الحكومات وتوالي الأجيال. . . فلا يجوز لنا أن نسلم بأن (الاستعمار الفرنسي) من أعمال حكام فرنسا، فلا يعتبر الشعب مسؤولاً عنه. . .)
هذا، ومما يسترعي النظر، أن معظم ما كتب في رثاء فرنسا وفي الدفاع عن ذلك الرثاء - في اللغة العربية - يظُهر آثار افتتان غريب بها ومغالاة شديدة في اعتبارها أرقى شعوب الأرض على الإطلاق. . .
فقد قال أحد الكتاب (إن المساواة في العدل الاجتماعي لم تكد تتحقق في أمة من الأمم في كل أدوار التاريخ إلاَّ في فرنسا). . . كما قال كاتب آخر:(لم يثر ثائر على الاستعمار في مشرق أو مغرب إلا وفي روحه جذوة من النار التي أوقدتها باريس للغضب على استعباد الشعوب).
وقال أحدهم (لا أعرف فرداً قد ربى فيه الوازع الشخصي بمثل ما ربى في الرجل الفرنسي).
وقد صاح أحد الكتاب قائلاً:(إن قوة الألمان فيض من قوتك يا باريس) كما خلع كاتب آخر