ثم عاوده يزيد مرة أخرى وكان قد أجمع أمره، وعزم على الدعوة لنفسه، فشاور يزيد بن عمر الْحَكميَّ فقال له: لا يبايعك الناس على هذا وشاور أخاك العباس، فإن بايعك لم يخالفك أحد، وإن أبى كان الناس له أطوع، فإن أبيت إلا المضي على رأيك، فأظهر أن أخاك العباس قد بايعك. فأتى يزيد أخاه العباس فاستشاره فنهاه عن ذلك، فرجع وبايع الناس سراً وبث دعاته بينهم، ثم عاود أخاه العباس فاستشاره ودعاه إلى نفسه، فزجره وقال له: إن عدت لمثل هذا لأشدنك وثاقاً وأحملنك إلى أمير المؤمنين فخرج من عنده فقال العباس: إني لأظنه أشأم مولود في بني مروان.
ولما قامت الحرب بين الوليد ويزيد كتب العباس إلى الوليد إني آتيك، فلما علم بذلك جيش أخيه أرسل من وقف له في الطريق، فأخذوه قهراً إلى جيشهم. وأكرهوه على البيعة لأخيه يزيد، ونصبوا له راية وقالوا هذه راية العباس قد بايع لأمير المؤمنين يزيد. فقال العباس: إنا لله، خدعة من خدع الشيطان، هلك بنو مروان. فتفرق الناس عن الوليد حين رأوا راية العباس وتم الأمر ليزيد بهذه الخدعة الماكرة.
فلما رأى الوليد ذلك ظاهر بين درعين، وركب فرسه السناي، وقاتلهم قتالا شديداً، فناداهم رجل: اقتلوا عدو الله قِتلة قوم لوط. ارجموه بالحجارة. فلما سمع ذلك دخل القصر وأغلق عليه الباب، فأحاطوا به من كل باب، وضيقوا عليه، فدنا من الباب وقال: أما فيكم رجل شريف له حسب وحياء أكلمه؟ فقال يزيد بن عنبسة السكسكي: كلمني. فقال: يا أخا السكاسك، ألم أزد في أعطيانكم، ألم أرفع المؤن عنكم، ألم أعط فقراءكم، ألم أخدم زمناكم. فقال يزيد بن عنبسة: إنا ما ننقم عليك في أنفسنا، إنما ننقم عليك في انتهاك ما حرم الله، وشرب الخمر، ونكاح أمهات أولاد أبيك، واستخفافك بأمر الله. فقال: حسبك يا أخا السكاسك، فلعمري لقد أكثرت وأغرقت، وإن فيما أحل الله سعة عما ذكرت.
ثم رجع إلى داخل القصر وجلس وأخذ مصحفاً فنشره يقرأ فيه، وقال: يوم كيوم عثمان. فصعدوا على الحائط ونزلوا إليه فاحتزوا رأسه، وكان آخر كلامه: الله يرتق فتقكم، ولا يَلُمُّ شعثكم، ولا يجمع كلمتكم. ثم ساروا برأسه إلى يزيد بن الوليد فأمر بنصبه، فقال له يزيد بن فروة مولى بنى مُرَّةَ: إنما تنصب رؤوس الخوارج، وهذا ابن عمك وخليفة، ولا آمن إن نصبته أن رتِقَّ له قلوب الناس، ويغضب له أهل بيته. فلم يسمع منه، ونصب الرأس على