(ألاحظ يا أستاذ أنك تحب هذه اللوحة لأنك تذكر كل دقائقها).
(أنها لمتعة لا يستطيع المرء أن ينساها. ولكن هل لاحظت تطورات هذا التمثيل الصامت؟ خبرني بربك الآن: أيها أصدق في تسجيل الحركات أهو المسرح أم التصوير؟ حقاً إنه ليصعب على المرء أن يقطع بقول في هذا الأمر. فها أنت ترى أن الفنان لا يستطيع - إذا ما أراد - أن يصور الحركات العارضة فقط بل ويمثل فصلاً طويلاً على حد تعبير الفن الدراماطيقي.
وليس عليه لإدراك سوى أن يضع أشخاصه بحيث يرى الناظر أول ما يرى منها أولئك الذين يبدءون العمل، ثم الذين يمضون به ويستمرون فيه. وأخيراً يرى أولئك الذين ينهون ذلك العمل. أتريد مثلاً في النحت؟) وعند ذلك فتح كتاباً أخذ بحث فيه هنيهة ثم سحب منه صورة فوتوغرافية وقال:
(هاك المارسليز الذي نحته رود ليوضع في جانب من نصب (قوس النصر)، ترى (الحرية وقد لبست درعاً نحاسية تشق الهواء بأجنحة منتشرة وترعد في صوت هائل: (إلى السلاح أيها المواطنون). ترفع يدها اليسرى عالية تستحث بها الأبطال من حولها، وتمسك بالأخرى سيفاً تصوبه نحو الأعداء. إنها بلا ريب أول ما تشاهد إذ أنها تسود المجموعة كلها. أما ساقاها المنفرجتان اللتان تجعلانها تبدو كأنها تجري فتخالهما نغمة أضيفت إلى هذه الأنشودة الحربية السامية. وكأني بصوتها القوي المنبعث من فمها الحجري يشق صماخ الأذن، فما لك من سماع صوتها من بد، ولم تكد ترسل دعوتها إلى الحرب حتى تدافعت الأبطال إلى الأمام. فهذا غوطي كأن شعره لبدة الأسد يلوح بخوذته عالياً كأنه يحي الآلهة وقد وقف ابنه الفتى الصغير إلى جانبه ممسكاً بقبضة سيفه يستعطفه ليرافقه إلى ساحة الوغى وقد بدا عليه كأنه يقول:(أنا قوى كما يا أبتاه، إنني رجل، أريد أن أذهب معك، فيقول له أبوه وقد حدجه بنظرة عطف وخيلاء: (تعال).
أما المشهد الثالث فيتكون من محارب قديم يترنح تحت أعباء عتاده ويجهد للحاق بهم، إذ يتحتم على كل من يشعر من نفسه القوة أن يذهب إلى ميدان القتال. ثم هذا رجل همُّ قوست السنون ظهره يتبع الجند بأدعيته وصلواته، وتدل إشارة يده على أنه يعيد عليهم نصائحه التي استخلصها لهم من تجاريبه الخاصة.