والثانية: أن يجيء رويه بالحركات الثلاث وبالسكون بعد ذلك
والثالثة: أنه لزوم عن كل روي فيه شيء لا يلزم من ياء أو تاء أو غير ذلك من الحروف)
فهذا شعر حدد موضوعه واختير له نظام في القوافي، وترتيب على الحروف وحركاتها، وكأنه كتاب من كتب العلوم اتصل تأليفه حتى كمل، وهي خطة تسلى بها المعري في عزلته، فينبغي أن يكون تاريخه متصلاً ونظمه متوالياً
وأنا أدعي أن ما تضمن هذا الكتاب من الآراء هو فلسفة أبي العلاء في عزلته بعد سنة أربعمائة، وأن هذا الكتاب كله، إلا أن تشذ أبيات قليلة، نظم بعد هذه السنة.
يدل هذا على أن أبي العلاء قال في مقدمة السقط: إنه رفض الشعر. وقال في مقدمة اللزوميات:(وقد كنت قلت في كلام لي قديم: إني رفضت الشعر رفض السقب غرسه، والرأل تريكته، والغرض ما استجيز فيه الكذب، واستعين على نظامه بالشبهات. فإما الكائن عظة للسامع، وإيقاظاً للمتوسن، وأمراً بالتحرز من الدنيا الخادعة وأهلها الذين جبلوا على الغش والمكر، فهو أن شاء الله مما يلتمس به الثواب)
فهذا النظم الذي توخى فيه العظة والإيقاظ كان بعد النظم الذي جرى فيه مع الشعراء، ثم رفضه رفض السقب غرسه، والرأي تريكته كما تقدم
ودليل آخر أنه ذكر سنه في كثير من أبيات اللزوميات تصريحاً وتلويحاً، ولم يذكر ما دون الأربعين، وهو قد بلغ الأربعين سنة ثلاث وأربعمائة إلا بيتاً واحداً في هذه القطعة:
إذا هبَّت جنوب أو شَمال ... فأنت لكلِّ مُقتاد جنيب
رويدك إنْ ثلاثون استقلَّت ... ولم يُنب الفتى فمتى ينيب؟
والخطاب في هذا البيت إما أن يكون لغير شاعر، وإما أن يكون بعض اللزوميات قد نظم حين جاوز الثلاثين قبل سفره إلى بغداد، وإما أن تكون هذه القطعة نظمت كذلك بعد رجوعه من بغداد واعتزامه الاعتزال، وكانت سنه حينئذ سبعاً وثلاثين سنة، فقد مضت الثلاثون ولم يبلغ الأربعين؛ فليس بعيداً أن يذكر مرور الثلاثين. ومها يكن فجمهرة الكتاب نظمت بعد سنة أربعمائة كما أسلفت.
ودليل آخر على أن أبي العلاء شرع ينظم اللزوميات بعد رجوعه من بغداد بقليل، أنه يذكر في اللزوميات - كما فعل في سقط الزند - رحلته إلى العراق آسفاً على الرحيل وعلى