كيف آلف الهدوء وطبيعة رفيقي على النحو الذي وصفته لك؟ وكيف لا تتوق نفسي إلى صخب الحياة وقد اتخذت (بيرون) وكل مؤلفاته رفيقاً لي وسميراً ومعلماً في اعتكافي في هذه الجزيرة الهادئة؟ كيف أجمع بين حياة هادئة فاترة فرضتها علي طبيعة وجودي في هذه الجزيرة الساحرة مع هذا الصديق الدميم عدو المرأة البعيد عن الحياة، وحياة قلقة حيرى، صاخبة فياضة تضطرب في صدر رفيقي (بيرون) العظيم وقد سارت عدواها إلى صدري؟
صممت على الرحيل. . . ولكن إلى أين؟
قال لي رب الفندق: إن في أعالي الجزيرة فندق جميلاً قائماً على القمة بين إحراج الصنوبر تحسن الإقامة فيه فترة من الزمن؛ فقطعت الرأي على الذهاب إليه. ومن المدهش أني ما كدت أضع حقيبتي في السيارة حتى رأيت حقائب صديقي الدميم تلقى في السيارة ووجدت هذا الصديق نفسه ينحط في المقعد ويجذبني إليه جذباً
وقال: أتهرب مني إلى الجبال وتتركني وحدي في هذا البلد الميت؟
قلت قلبك هو الميت يا صديقي! إن الحياة هي الحياة التي نعرفها نحن الأصحاء، أما أنت المريض ميت القلب فلا تعرفها ولا تحس بوجودها.
لم يعر فوره نفسي التفاتاً. . . وأشار إلى سائق السيارة أن يسير. ولما كانت السيارة تدرج على شاطئ البحر وتنعرج وتتسلق جبالاً هي مجموعة من حدائق وبسلتين كان صاحبي ملتزماً الصمت، وما كنت أعرف أكان صمته ذاك وسيلة لتهدئة نفسي، أم لعلك ما رميت به قلبه بالموات ولوك هذه الفرية.
ما أكثر وجوه الشبه بين فندق (الأيل) ويسمونه باللغة الإيطالية (شيرفو) وبين الأديار في لبنان! سكان الأديرة قساوسة جرفتهم الأقدار إلى هذا المحيط الضيق فأخذوا يمنون أنفسهم بمحيط واسع تتحقق فيه الأماني وتظهر الغاية الإلهية من الوجود الإنساني عقب الخلاص من هذا العالم الفاني!
سكان فندق (شيرفو) أكثرهم مرضى ينتجعون العافية في هذه المصحة، وشيوخ يأملون في العودة إلى الحياة، حياة الشباب عن طريق الاستراحة وطيب التغذية، وفتية صغار يضيق بهن ماء الفندق فيسترخون في الخرج القريب ويمرحون. وكنت أنا وصديقي الدميم كمريضين أو قسيسين ننتجع العافية أو نمني النفس بسعادة لا نجدها إلا في قراءة الكتب