دلالات معنوية على المواد؛ وهذه سليقة فيهم توارثوها وتناقلوها كما يأخذ أبناؤنا في هذا العهد عنا أوضاع لغتنا العامية.
ولذلك يقول عبد القاهر الجرجاني في الرد على منكري ضرورة النحو:(وأما زهدهم في النحو واحتقارهم له، أو إصغارهم أمره وتهاونهم به فصنيعهم في ذلك أشنع من صنيعهم في الذي تقدم وأشبه بأن يكون صداً عن كتاب الله وعن معرفة معانيه؛ ذاك لأنهم لا يجدون بداً من أن يعترفوا بالحاجة إليه، إذ كان قد علم أن الألفاظ مغلقة على معانيها حتى يكون الإعراب هو الذي يفتحها، وأن الأغراض كامنة فيها حتى يكون هو المستخرج لها، وأنه هو المعيار الذي لا يتبين نقصانه كلام ورجحانه حتى يعرض عليه، والمقياس الذي لا يعرف صحيح من سقيم حتى يرجع إليه، ولا ينكر ذلك إلا من ينكر حسه، وإلا من غالط في الحقائق نفسه).
ثم يقول مبيناً أن النحو نبراس لفهم المعنى بدقة:(وإذا نظرتم في الصفة مثلا فعرفتم أنها تتبع الموصوف، وأن مثالها قولك: جاءني رجل ظريف، ومررت بزيد الظريف، هل ظننتم أن وراء ذلك علماً؟ وأن ها هنا صفة تخصص وصفة توضح وتبين؟ وأن فائدة التخصيص غير فائدة التوضيح، كما أن فائدة الشياع غير فائدة الإبهام؟ وأن من الصفة صفة لا يكون فيها تخصيص ولا توضيح، ولكن يؤتى بها مؤكدة كقولهم (أمس الدابر)، وكقوله تعالى:(فإذا نفخ في الصور نفخة واحدة)، وصفة يراد بها المدح والثناء، كالصفات الجارية على اسم الله تعالى جده؟ وهل عرفتم الفرق بين الصفة والخبر وبين كل واحد منها وبين الحال؟ وهل عرفتم أن هذه الثلاثة تتفق في أن كافتها لثبوت المعنى للشيء ثم تختلف في كيفية ذلك الثبوت؟)
فالنحو في رأي الجرجاني ليس لصحة الشكل فقط، بل وللتعبير الدقيق عن المعاني، وللفهم الدقيق لهذه المعاني، فهو إذن من صميم اللغة وجوهرها.
وأما الزعم بأنه لا يستطيع عربي أن يجيد لغته بدون تعلم النحو فيدحضه أن العرب - إلى أن خالطوا العجم في الإسلام - كانوا يجيدون لغتهم غير مفتقرين إلى تعلم النحو، وأن البارودي في هذا العصر أجاد اللغة فهما، وأجاد الشعر نظما، ولم يتعلم النحو، وذلك بكثرة القراءة والحفظ لأنهما أجدى على المتعلم من قواعد النحو التي لا يصحبها تطبيق متكرر.