بينما أنا قد أسلفت أنه يعتمد - فيما يعتمد عليه - على الحقائق البديهية الخالدة، التي تتفتح لها البصيرة المستنيرة وتدركها الفطرة المستقيمة. كما كررت أنه يلمس البداهة ويوقظ الحس، ليتصل منهما بالضمير وبالوجدان.
فالأستاذ عبد المنعم يرتب مثالبه كلها للمنطق الوجداني على أساس صورة خاصة في تعريفه لهذا المنطق غير التي عنيتها بوضوح. ولست أنا المسؤول طبعاً عن ترتيب الأمور على هذا النحو الذي يبدو واضحاً عند الموازنة بين ما قلت هنا وما قال!
على أنني أحب أن أقول له هنا: إن الشعر والموسيقى والفنون ليست خواء كلها من الحقائق الخالدة - كما يصورها - ولو خلت من هذه الحقائق ما عاشت وما حسبت فناً صادقاً، فنحن في حاجة إلى أن نوسع آفاقنا عند النظر للفن الصادق، فنجده يلتقي في النفس بينابيع العقيدة على نحو من الأنحاء. وإلا كان فناً مزيفاً لا يعيش، وزخرفاً ظاهراً تزيفه الحياة
٢ - وأما الاستدلال المنطقي كما أورده في الآيات، فأحب أن أقول عنه: إن القرآن كان أعرف بالنفس البشرية من الأستاذ عبد المنعم، فلم يسق الأدلة كما ساقها هو، وإلا لكانت متهافتة من وجهة المنطق الذهني نفسه. فهي في سياق القرآن شئ يتصل بالفطرة على استقامتها، فترفض الأوجه المنطقية الزائفة، وتؤمن بالوجه الواحد الصحيح منها إيمان اقتناع وتسليم، وهي في سياق الأستاذ عبد المنعم محاولات ذهنية لا تستقيم على الجدل كما يأتي:
(أ) يقول الأستاذ عن مقطع الآية الأول: (فالإله الواحد هو وحده الذي يخلق ويحي وينشر الخلائق من الأرض. الخ) أفلا يعلم أن قضية البعث كانت من القضايا الكبرى التي تولى القرآن إثباتها لهؤلاء القوم. فكيف يجعل منها دليلا على وحدانية الله هنا - ولو كان منطق الذهن الجدلي هو المحكم - بينما هي نفسها موضع جدل طويل، وليست لإحداهما سابقة على الأخرى بل هما مظهران لقضية واحدة تثبت بطرفيها، أو تتهافت بطرفيها.
(ب) ويقول عن فساد الأرض لو تعدد الآلهة: (فإن التصور البشري لا يستطيع أن يجرد الآلهة من صفات الناس لأنه لا يملك غير منطقه هو فهو معذور). . . أفلا يعلم أن القرآن ذاته قد كلف التصور البشري أن يؤمن بأن الله (ليس كمثله شئ)! فكيف كان يكلفه هذا لو